من القصص الشعبي السامري
(2)
ترجمها من العبرية وعلّق عليها
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
٤) فرح في أواخر الصيف
رتصون (راضي) صدقة1
سكن ثلاثة أشقاء من آل صدقة، إسحاق ويعقوب وساسون الشاب، في الخمسينيات من القرن العشرين في شقّة في عمارة في طريق يافا-تل أبيب حيث كان سامريون كثيرون في تلك الفترة. سكن الأشقاء الثلاثة في شقّة واحدة مع النساء والأولاد (ساسون كان أعزب) وعاشوا حياة تعاونية، وكدّوا في العمل من أجل الحصول على لقمة العيش وذاقوا طعم الفاقة. وكان ليعقوب، الأخ الأوسط ثلاث بنات وتمنّى أن يُرزق بولد. وعندما حملت زوجته للمرة الرابعة تضرّع الثلاثة لإلاه السماوات أن يمنّ عليها بمولود ذكر وندروا أنه إذا لبّيت صلاتهم فإنهم سيُقيمون “مولد موسى”2 ويدعون إليه كل السامريين الساكنين في يافا وتل أبيب.
وعند اقتراب موعد الولادة اشتدّ التوتر لدى الأشقاء الثلاثة. وكان عيد الفسح عام ١٩٥١ مميّزا للطائفة ففيه سُمح للسامريين في دولة إسرائيل للمرّة الأولى التوجّه إلى جبل جريزيم للقربان. وهناك في خيمة على الجبل، ركعت زوجة يعقوب لتضع مولودها وكان ذكرا وفرح وتهلّل الجميع. وعندما عاد الأشقاء إلى تل أبيب قرّروا الوفاء بالندر وتقاسُم تكاليف الاحتفال الباهظة. تقرّر أن يقدّم كل شقيق الضيافة في كل قسم من أقسام “مولد موسى” الثلاثة. وفي مساء صيفي حارّ ورطب تجمّع في الشقة الصغيرة قرابة تسعين سامريا، عدد السامريين الذين سكنوا في إسرائيل في تلك الفترة وأتوا كلّهم للمشاركة في الفرح.
وفي نهاية شعر (پيوط) “أنصت واسمع يا إسرائيل”، القسم الأول من المولد، أحضر الأخ البكر، إسحاق، معجّنات ومشروبات ابتاعها ممّا جمع من نقود عزيزة. أكل المدعوون جميعهم وشربوا واستعدّوا للقسم الثاني للقصيدة التي رتّلها شيوخ الطائفة. وعرف الجميع أن الشقيق يعقوب سيقدّم فواكه وجوزا في آخر هذا الجزء. والسرّ الدفين كان ماذا سيقدّم الشقيق الأصغر، ساسون في خاتمة القسم الثالث من المولد. اهتمّ الجميع بهذا الموضوع واستفسروا منه قبل الاحتفال وكان الجواب: عندي شيء خاص حقّاً. حالة التوتّر والتكهّن حول ما سيكون في جعبة ساسون أنست الحضور الحرّ الشديد الذي كان سائدا آنذاك.
وأخيرا انتهت تلاوة الشعر وتعلّقت كل العيون على المدخل لرؤية ما سيأتي به ساسون من ضيافة. وبعد انتظار متشنّج دَخَل ساسون الغرفة حاملا صندوقا كرتونيا كبيرا. كان الجميع على يقين أن في الصندوق هدايا صغيرة، مفاجأة لكل المدعوين. وإزاء تلك العيون المذهولة فتح ساسون الصندوق رويدا رويدا وأخرج منه قصاصات كرتونية مربعة وأخذ يوزّعها على الحاضرين. نظر كل واحد منهم على القصاصة مرتبكا ومستهجنا ولم يدر ما عليه أن يفعل بها.
سمعا! قال ساسون بعد توزيعه للقصاصات “أنتم تسألون لماذا هذه القصاصات الكرتونية”؟ منذ الصباح علمتُ أن هذا المساء سيكون حارّا جدا وقررت أن أنسبَ هدية ستكون هذه القصاصات للتهوية، للتلويح بها مقابل الوجه للتخفيف من شدّة الحر”.
نظر الحاضرون نحوه بذهول. وفجأة بدأ العم يفت (حسني)3 بالضحك بصوت عال وسرعان ما انتقل ذلك إلى الآخرين الذين أغرقوا في الضحك فأمسكوا بطونهم المهتزة . وعندما هدأ الحضور خرج ساسون وأحضر تقدمته الحقيقية: طبق ضخم من الكنافة الحلوة المحشوة بالجوز، كان قد أعدّها خصّيصا للمولد.
٥) أبو فارس يطرد روحا شرّيرة
عبد حنونة بن إبراهيم الدنفي4
كان أبو فارس، إبراهيم بن مرحيڤ (مفرج) صدقة5، أولَّ سامريّ ترك نابلس في بداية القرن العشرين وانتقل للعيش في يافا مع زوجته وأولاده الثمانية. كل جيرانه في يافا احترموه جدا بفضل حكمته، وقصده كثيرون ليحلّ لهم مشاكلهم. لم يبخل أبو فارس على أي إنسان في تقديم نصائحه له وكان يتقاضى مقابل ذلك أجراً لا بأس بها.
وذات يوم طرق أبو محمود، وجيه من وُجهاء يافا وأثريائها، بابَ أبي فارس وبعد المجاملات والضيافة الشرقية بسط الضيف مشكلته. ابن وحيد كان لأبي محمود وكانوا على وشك تزويجه من ابنة عمّه الجميلة والطيّبة إلا أنه في صباح اليوم السابق للعرس لم يحضر محمود إلى وجبة الفطور. راح أبو محمود يبحث عنه فوجده في غرفته عاريا كما ولدته أمّه واللعاب يتدفّق من فيه ويُطلق أصواتا غريبة عجيبة. روح شريرة دخلته واضطر أبوه إلى حبسه في غرفته وهكذا أُلغيت كل استعدادات العرس.
ذهب أبو فارس مع أبي محمود إلى بيته وطلب أن يكون مع الشاب على انفراد طالبا ألا يزعجه أحد. دخل أبو فارس الغرفة وكان الشاب ملقى في ركن الغرفة ويئنّ ويُسمع أصواتا غريبة. انتصب أبو فارس وألقى نظرة ثاقبة لوقت طويل إلى أن انتبه الشاب وتلاقت النظرات هنيهة ثم لم يقو الشاب أكثر فغضّ الطرف.
“يا محمود” قال أبو فارس، “لماذا تتظاهر بالجنون وأنا أعرف من نظرة عينيك أن الجنون بعيد جدا عنك”؟ إحك لي قصّتك وثق أنني سأساعدك.
انهار الشاب وأجهش بالبكاء. قصّ لأبي فارس وهو ينوح ويولول سبب جنونه المزعوم. أراد والداه أن يزوجاه لابنة عمّه وهو يحبّ فتاة أخرى ورأى أن تظاهره بالجنون يحلّ المشكلة.
“ولا يهمّك” همس أبو فارس بأذنه، كل شيء سيكون على ما يرام. ابنة عمّك قد زوّجت وسأساعدك”. ذهب أبو فارس إلى الوالدين المغتمّين وطلب قرعة (يقطين) كبيرة وعشرين ليرة ذهبية مقابل إزالة الروح الشريرة. “وكي لا تعود الروح الشريرة لا بد من تزويج محمود فورا” قال لهما أبو فارس وأضاف “وأنا أعلم من هي الفتاة الملائمة له”. “إننا على استعداد للقيام بكل ما تقوله” صاح الأب وأردف “سنتّصل بوالديها اليوم”.
هذه القصّة العجيبة انتشرت في كل أنحاء يافا. والجميع عمل كل ما في وسعهم لحضور حفلة زفاف محمود الذي تشافى وضيف الشرف، كان بالطبع، أبا فارس الذي كان قد سلّم القرعة الضخمة لزوجته يرحة (قمر) التي أعدّت منها طبقا شهيا لعيد العُرش.
٦) جورب السعادة
زبولون (فيّاض) بن يوسف ألطيف6
هكذا حكى لي أبي، رحمةُ الله عليه، عن أيام صباه الصعبة: كان ذلك في يوم السبت السابق لعيد الفسح، أجمل سبوت السنة، فهي تبشّر بقدوم الربيع. في هذا اليوم يعمّ الفرح بيوتَ السامريين في نابلس. الكل يسبّح الخالق وينتظر حلول أيام الربيع والصيف الجميلة ويحسّ برائحة قربان الفسح، عيد الانعتاق والحرية.
عشّش الحزن في قلبي أنا فقط. كنتُ فتى، ابن خمسة عشر ربيعا فقط، مات أبي وأضحت إعالة الأسرة، أمّي وشقيقي وشقيقاتي الصغار، ملقاة عليّ. وغدا تبدأ ثلاثة أيام السبت تلك وخلالها يخرج السامريون للتنزّه في الأحراش وفي التلال، ذكرى لقاء موسى وأهرون بعد ستين سنة من الفراق7. وعلى شرف هذا الحادث يحضّر السامريون المأكولات، اللحم والكعك والمشروبات، ولم يكن في جيبي مليم أشتري به طعاما لأمّي واخوتي اليتامى.
“معليش” قلتُ في نفسي، “غدا سيأتي الأعمام والعمّات لزيارتنا ويُحضرون، كعادتهم، قليلا من المال، نفقة ذلك السبت المعروفة بالاسم “موسمية”8. وبهذا المال سأشتري خبزا لعائلتي”.
وفي يوم الغد استيقظت باكرا وجلست في مدخل البيت منتظرا مجيء الأقارب. انتظرت حتى الساعة العاشرة ولم يأت أحد. خرجتُ إلى الشارع وعيناي مغرورقتان بدموع القنوط واليأس. أصحابي، أبناء جيلي، خرجوا للتنزه بمجموعات يحملون السلال المليئة كالمعتاد بالمأكولات. دعوني لمرافقتهم إلا أنني كنت خجولا إلى أقصى حدّ ورفضتُ. صعدت خلفهم إلى الجبل مستترا وراء صخرة وسمعت ضحكاتهم وهم يلعبون ويمرحون وشممت رائحة اللحم المشوي القادمة إليّ من بعيد فبكيتُ. لم أنو العودة إلى البيت لأرى عذاب إخوتي الجياع ومن شدّة خجلي لم يطرأ على بالي الذهاب إلى عمّي وأطلب الموسمية التي نسوا تقديمها لنا. وأخيرا لم أطق الوحدة وطفقت عائدا إلى البيت.
نظر إليّ إخوتي دون أن ينبِسوا ببنت شفة وحاولت أمي قدر جهدها إخفاء خيبتها منّي لعجزي. نهضت أمي من مكانها وتناولت من على الخزانة صينية النحاس الوحيدة المتبقية لدينا. “خذ الصينية يا بنيّ”، قالت الأم، “إذهب إلى أحد الحوانيت قبل موعد الإغلاق واعطها رهنا لأحد العرب أو بعها وأحضر بثمنها قليلا من الطعام”.
خرجتُ إلى السوق المعتم وكان من الصعب إيجاد الطريق بدون مصباح. كان السوق خاليا من الناس والهدوء مخيّما. وجدت بعض التعزية في أني لم أصادف أحدا من أقربائي أو معارفي وأنا في طريقي للحصول على نزر يسير من الأكل. وأخيرا وجدتُ دكّانا واحدا مفتوحا وكان صاحبه يستعد لإقفاله. اقتربت من البقّال وقلت له متوسّلا: “يا سيّدي، لا طعامَ عندنا في البيت. إعمل معروفا معنا وخذ هذه الصينية رهنا عندك أو اشترها واعطني بثمنها رطلين من الطحين”.
اغتاظ العربي عند سماعه لطلبي، رفسني وطردني وشتمني. حملت الصينية وعدت منتحبا إلى البيت. تحسّستُ جدران الزقاق المظلم لمعرفة طريقي حتى وجدت نفسي في الطريق الصحيح إلى بيتي. وفجأة أحسستُ أني أدوس جسما رخوا وكدت أتعثر وأسقط أرضا. انتصبت وتابعت المشي إلا أنني انشغلت بفكرة احتمال دوسي على جثة وعليه يجب أن أتطهّر في المستحمّ ولا أملك ملّيما من أجل ذلك. قررت الرجوع واستجلاء الأمر، ربما لم تكن هناك جثة وربما دُست على شيء نافع؟
مددت يدي بتردد إلى أرضية الزقاق المضاء بالفانوس، وشيئا فشيئا لمست الجسم الرخو، جوربا حريريا مطويا. وعندما التقطته سمعت رنين نقود بهيجا، ليرة ذهبية حقيقية لم أحظ بلمس مثلها طيلة عمري. دحشتُ أصابعي إلى قلب الجورب وأحسست بوجود قطع معدنية إضافية.
غمرتني سعادة فائقة وعدت إلى السوق فرحا راكضا، وتمكنت من الوصول إلى ذلك البقّال الشرّير وهو يقفل باب حانوته وطلبت منه أن يبيع لي بعض الأرطال من الطحين. التفت البقّال ليضربني ولكن حال رأى القطعة النقدية غيّر رأيه. “إني مزحتُ، لا تغضب، تعال لأبيعك كل ما تريد”.
وعندما وصلت البيت حاملا من كل ما حلا وطاب بدا لي الزقاق المعتم وكأنه مضاء في عزّ الظهيرة. وأمّي التي لاقتني عند عتبة الباب كانت مندهشة وبصعوبة استطعتُ أن أقنعها أن كل ما أحضرته لم يكن مسروقا. “أعجوبة حدثت لي بفضل الله” قلت بصوت عال. أسرعت أمي وأيقظت شقيقي وشقيقاتي الصغار وأعدّت عشاء لم نحظ به منذ أيام كثيرة.
لم أعدّ القطع النقدية التي في الجورب. من مرة لأخرى كنت انتشل قطعة ثم قطعة وهكذا أعَلْنا أنفسنا أياما كثيرة. لم نردّ على أسئلة أقاربنا حول مصدر هذا الخير الذي نزل علينا.
وفي عيد الحصاد فقط نصحني الشيطان بالعدول عن عدّ ما تبقّى من القطع المعدنية المتبقية في الجورب. بقيت هناك خمس ليرات ذهبية وكانت كافية لإعالتنا برخاء مدّة طويلة.
٧) مِلعقة كبيرة لأفواه كثيرة
رتصون (راضي) صدقة
كان الملك عبدالله9، والد جدّ عبدالله ملك الأردن، إنسانا شعبيا غير متكبّر وكان طيّبا وأحسن معاملة السمرة. في إحدى سنوات الأربعين من القرن العشرين، دُعي لزيارة ملكية إلى نابلس. زيّنت كل المدينة على شرفه وأعدّت وليمة ملوكية فاخرة له. حضر الوليمة جميع وجهاء المدينة ومن ضمنهم الكاهن الأكبر السامري، المرحوم أبيشع بن فنحاس10 وبمعيّته بعض الكهنة الطاعنين في السنّ.
نفس الملك اشمأزّت من المجاملات الغربية. ولذلك فُرشت مصطبة قاعة ضخمة بالسجّاد السميك ووُضعت عليه عشرات الوسائد وعليها قعد الملك ومرافقوه.
وبعد انتهاء مراسيم الاستقبال الطويلة، عناق وتقبيل يد الملك من قِبل وجهاء نابلس وضواحيها، قدّمت المأدبة. أُحضِرت سدور نحاسية كبيرة محمّلة بأنواع السلطة فأخرى على كل واحد منها خروف مشوي كامل محشيّ بالأرز والصنوبر ورائحة الشواء ملأت المكان. وُضع أكبر خروف أمام الملك وثلاثون خروفا آخر أمام المدعوين. وعلى أطراف السدور هذه اصطفت عشرات الملاعق الكبيرة على أطراف السدور كما يليق بأهل المدن. انتظر الجميع شارة افتتاح المأدبة من قبَل صاحب الجلالة الملك عبد الله.
انحنى رئيس بلدية نابلس، النابلسي11، نحو السدر وتناول ملعقة مذهبة وقدّمها للملك. ألف عين تقصّت ذلك. ردّ الملك يدَ النابلسي الممدودة، دسّ يده في حشوة الخروف وحفن من الأرز والصنوبر حفنة وزقلطها ودسّها في فمه وهكذا دواليك. تتبّع رئيس البلدية مذهولا ما قام به الملك، ولكن سرعان ما تدبّر الأمر، ودسّ يده مقلّدا عمل الملك. عندها سُمع صوت خشخشة عال لعشرات الملاعق. وأعاد باقي المدعوين الملاعق التي كانت بأيديهم إلى السدور وأكلوا كما أكل الملك ورئيس البلدية.
وفي نهاية المأدبة وبعدها تجشؤات (حازوقات) الارتياح والرضى، التفت الملك نحو النابلسي وكان متجهّم الوجه وسأله: لماذا أنت مغتم؟ “لا تغضب ولا تحتدّ يا جلالة الملك، سؤال واحد لو تكرّمتَ” قال رئيس البلدية، “لماذا رفض جلالة الملك، حفظه الله، تناول الطعام بالملعقة التي قدّمتُها له وفضّل استخدام كفّ يده”؟
أصغى المجتمعون بيقظة لما دار بينهما وهم متخوّفون من أن شرّا ما سيحلّ برئيس البلدية جرّاء جرأته، وقاحته، إلا أن الملك لم يبدُ مغتاظا بل بالعكس انفجر بالضحك العالي وسرعان ما انضم إليه الحاضرون في القاعة بقهقهاتهم وهم يُحملقون الواحد بالآخر ومندهشون، يا تُرى ما سبب ضحك الملك. وعندما انتهى سيل الضحك أجاب الملك: “أنا ابن البيداء، وما لي ولعادات الفرنجة، لماذا آكل بملعقة تدخل أفواهَ كثيرين (أو أفواها كثيرة) ”كل هلقدّة” ولا آكلُ بأصابع يدي التي تدخل فمي لوحدها”؟
٨) حُكم مَن يدسّ إصبعه بأنفه
صلوح بن بنياميم صدقة12
كلنا نعيش اليوم في بيوت رحبة في قرية لوزا على جبل جريزيم وقلائل هم الذين يذكرون تلك الأيام الخوالي التي سكن فيها السامريون خلال عيد القربان على الجبل في خيام كانت مفتوحة من كل جانب. كنّا معرّضين لعابري سبيل، وما أكثرهم آنذاك، يمدّ الواحد منهم يده الطويلة إلى ممتلكاتنا.
أحد اللصوص سيّئي الصيت كان عربيا من كفر قليل13 اسمه نصير. وكان هذا اللصّ بالذات مسؤولا عن حماية خيام السامريين (حاميها ؟ها) عندما كانوا منهمكين بالاستعدادات لقربان الفسح. أُرغمنا على تشغيل حرّاس من أبناء كفر قليل ودفع ضريبة حتى، خروف، وذلك لتفادي عرقلة سير مراسم عيد الفسح. وقد أوقف هذا التصرف المشين عندما اعتلى الملك حسين14 العرش الهاشمي فقد أمر بإبطاله.
لم يفوّت نصير أية فرصة “لإخفاء” أمتعة متنوعة من خيامنا المهجورة عندما كان يتجوّل بينها. وإذا وجّه إليه أحدٌ اصبعَ الاتهام تجهّم وجهُه كمن أُهين وأقسم بالآلاف بذقن نبيّه أن لا ضلع له ولا إصبع في الغشّ والخيانة. وعندما كان يُعرض عليه مبلغ من المال للبحث عن اللص كان “يتطوع” لإعادة السرقة ويتسلّم الأجر.
ومريم، زوجة عمّي، يفت بن إبراهيم صدقة15، كانت يهودية من أصل روسي، لم توافق على الاشتراك في هذه اللعبة. وذات يوم، في وقفة عيد الفسح، اختفى إبريق قهوة من خيمة مريم. وقررت مريم، تلك المرأة القوية والشجاعة، أن تلقّن السارق درسا وعبرة.
وقُبيل العيد، أشاعت مريم إشاعة مفادها أن زوجها الثري قدِ اشترى قماشا دمشقيا فاخرا لبيعه للسامريين وكل هذا القماش مخفيّ في خيمته. وانتشرت الإشاعة شفاها من واحد لآخرَ حتى وصلت أذني نصير المرهفتين.
وعندما ذهب المحتفلون إلى مكان القربان، بقيت مريم مستترة في خيمتها المظلمة منتظرة اللصّ. ولما كان جميع السامريين منشغلين بتنظيف الخراف المذبوحة وتجهيزها16 خطا نصير بكل ثقة نحو خيمة عمّي. اقترب من الفتحة المغلقة بحبال وحاول بأصابعه توسيعها ليتسنّى له اختلاس النظر. وعندما لاحظ أن الشقّ اتّسع جيدا حاول دسّ رأسه وأوّل ما دخل كان أنفه الطويل.
وقبل أن يدحش نصير باقي وجهه تأوّه فجأة ألما. مريم التي كانت تنتظره، أمسكت بأنفه بأصابعها القوية وجذبته بقوة، وقرصته بحدّة. صرخ نصير من الوجع وتوسّل ودموعه تسيل أن يفلتوا أنفه ولكن دون جدوى، إزرقّ الأنف تارة واحمرّ طورا.
وعند سماع الصراخ والأنين هبّ السامريون من مكان القربان إلى الخيمة وبدأوا بالضحك لما رأت عيونهم. وعندما تأكدت مريم أن أناسا كثيرين قد تجمّعوا أخذت بتأنيب نصير بصوت عال بسبب سرقاته وازدادت ضحكات المجتمعين حول الخيمة. وأخيرا استجابت مريم لتوسّلات نصير وأفلتت أنفه بعد أن وعدها بإرجاع إبريقها، وهكذا كان. وبعد عام لم يعد نصير يحرس على خيام السامريين.
----
1. عن هذه الشخصية السامرية المعروفة ينظر في : حسيب شحادة، “سيرة حياة راضي صدقة”،أ. ب. أخبار السامرة، ٨٠٤-٨٠٧، ١٥ شباط ٢٠٠٢، ص. ٧٥-٨٠، و “وصية راضي أبي الأمين صدقة”، تحت الطبع.
2. حفلة تقام في اليوم السابع لولادة الابن وترتل قصيدة دينية طويلة ذات أربعة أجزاء تحكي قصة ولادة كليم الله، النبي موسى بن عمران، وأعماله الطيبة. وعند الانتقال من جزء لآخر يقدّم النادر ما طاب من المأكل والمشرب على المدعوين. حفلة مماثلة تقام في حفلة الزواج أيضا. ويذكر أن מולד משה هو كتاب بالعبرية والآرامية ألفه إسماعيل ابن بدر ابن أبو العز الرميحي في القرن السادس عشر. أنظر: Selig J. Miller, The Samaritan Molad Moshe. Samaritan and Arabic Texts Edited and Translated with Introduction and Notes. New York 1949.
3. إنه حسني بن إبراهيم صدقة الصباحي المعروف باللقب “سيدو”، ١٨٩٥-١٩٨٢، رئيس الطائفة السامرية في إسرائيل وتزوج من مريم حايقين، يهودية روسية الأصل، كان صديقا حميما لإسحاق بن تصڤي رئيس دولة إسرائيل الثاني والذي كان وراء هذا الزواج. ترك نابلس، مسقط رأسه عام ١٩٤٤ وتوجه باحثا عن عمل في يافا وسكن في شارع عين يعقوب، وهو جدّ (من جهة الأم باتية ) محرري أ. ب. أخبار السامرة، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني). تتلمذ على يدي إبراهيم بن فنحاس اللاوي.
4. عبد حنونة بن إبراهيم بن عبد حنونة بن إسماعيل الستري الدنفي المكنى بأبي رامي، ١٩٠٤-١٩٩٥، عمل عند الخياط النابلسي أحمد درويش، نسخ كتب صلوات كثيرة وزوجته تصيپوراه، شقيقة باتبا صدقة، عاش في يافا مدة، كان ذا خبرة بقراءة التوراة، ولداه: إبراهيم ويفت.
5. ولد عام ١٨٥٢ وتوفي عام ١٩٢٨، ترك نابلس في ١٩٠٢ أو ١٩٠٤ وسكن في يافا حيث فتح حانوتا للقماش. امتاز إبراهيم بأخلاق سامية، اعتال أحيانا من كتابة التعاويذ والحجب لعرب من نابلس ومن يافا، أطلق عليه شباب نابلس اسم “كاهن يافا” بالرغم من عدم كونه كاهنا. تزوج من يرحة (قمر) وأنجبا ستة أولاد وبنتين، أخواه يعقوب ويفت. نظم الشعر بغزارة وكان راضي صدقة قد جمع شعره ووزعه على الطائفة، له قاموس، ترجم كتاب التاريخ لأبي الفتح السامري إلى العبرية بناء على طلب موشي چاستر، ربطته علاقة صداقة مع إسحاق بن تصڤي، الرئيس الثاني لدولة إسرائيل.
6. ولد عام ١٩٢٩، عمل معلما وسكرتيرا للجنة السامرية في نابلس وكان استاذه الشاعر الفلسطيني المعروف، عبد الرحيم محمود الذي قتل عام ١٩٤٨ في سجرة.
7. إنه السبت الواقع قبل عيد الفسح بخمسين يوما وتكرّس لاقتران الشمس بالقمر وذكرى لقاء موسى وأهرون بعد فراق دام ستين عاما. في هذا الأسبوع يوزّع الكاهن الأكبر روزنامة نصف السنة على منازل الطائفة.
8. في الأصل العبري מוצאמייה وهي مثل للإفراط في التصحيح، سين تقلب صادا.
9. عبد الله الأول بن الشريف الحسين بن علي ١٨٨٢-١٩٥١، مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية في ١١ نيسان ١٩٢١.
10. أي ناجي خضر بن إسحاق بن سلامة بن غزال الكاهن اللاوي، ١٨٨٠-١٩٦١، مدة كهنوته ١٩٤٣-١٩٦٣ جاء بعد أخيه متصليح (توفيق) فنحاس. سافر إلى لندن ثلاث مرات مع ابن عمّه الكاهن إسحق بن عمران، إحداها كانت عام ١٩٠٣، نظم شعرا ليتورجيا، عمل راوية لدى چاستر وكالي وتراسل مع الأول في ثلاثينيات القرن العشرين، ألف مجلسا مليا فيه خمسة أعضاء وترأسه إلا أنه لم يعمّر، زاول إعداد حساب الحق، חשבן קשטא، التقويم السامري، نسخ مؤلفات كثيرة وترجم من العربية للعبرية.
11. المقصود هو سليمان طوقان الذي كان رئيسا لبلدية نابلس منذ العام ١٩٢٥ وحتى ١٩٥١ وينظر في: زهير الدبعي، مدخل إلى أعلام نابلس في القرن العشرين. شركة الحاج نمر التميمي، نابلس، فلسطين، ط. ١، ٢٠٠٠.
12.ابن شقيق يفت (حسني) بن إبراهيم صدقة. وعن عيد القربان عام ١٩٣٧ أنظر: מרים גורונצ‘קי, זבח פסח והשומרונים בהרגרזים – אביב 1937, דבר 10 במאי 1937, א. ב. חדשות השומרונים, 1084–1085, 17 באפריל 2011, עמ‘ 40–45.
13. قرية على سفح جبل جريزيم، ٤ كم إلى الجنوب من نابلس، فيها ثلاث عائلات: عامر، منصور، دياب عدد سكانها حوالي ثلاثة آلاف نسمة.
14. اعتلى الحسين بن طلال، حفيد الملك عبد الله بن الحسين (١٩٣٥-١٩٩٩) العرش عام ١٩٥٢.
15. أنظر ملحوظة رقم ١٥.
16. هذه المرحلة اسمها السميط، صبّ الماء المغلي على الخروف المذبوح لنزع صوفه عنه.