من القصص الشعبي السامري
(3)
ترجمها من العبرية وعلّق عليها
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
٩) بُشرى اللقالق
باتية بنت يفت صدقة1
في آخر الحجّ2 وقفتُ كعادتي عند الخروج من “چفعات عولام”3 منتظرة أبي لأكون أول مستقبليه. نظرت نحوه وأنا أخطو على مهلي خطوة تلو الأخرى، كان وجهه مشعّا وعيناه تبرقان. ضحك فرحا وبينما أنا كنتُ أحاول الإمسك بيده لتقبيلها ضمّني إلى حضنه قائلا: “إنّي قد قلتُ لك يا باتية إن الله بوافر رحماته لا يترك شعبه المحافظ على الحقّ. إنه أرسل ثانية ملائكته لاصطحابنا”.
دموع الانفعال خنقتني، عرفت أنه يقصد سرب اللقلق الذي كان يرفرف فوق جماعة المحتفلين بنهاية الحج، وهذه كانت السنة الرابعة على التوالي في عيد المصة، الفطير.
وبعد أن عانقني أبي التفتّ إلى شقيقاتي اللواتي انتظرن التسليم عليه. “قلت لكنّ إن عَلَم إسرائيل سيرفرف من على جبل جريزيم، هذا اللقلق هو العلم الشاهد على أننا لن نرى حزنا وأسىً بعد”. كان ذلك عام ١٩٦٨.
وبينما كنت واقفةً هناك مرّت في ذاكرتي كلّ اللحظات الرائعة في حياتي، المرتبطة بالسفَر إلى جبل جريزيم. لم تكن لنا أيام أحلى من تلك. عندما كان صوت أبي يصدح بترانيم ليلة السبت حول ضربات مصر، كل سبت وضربته والضربات السابقة لذلك علمنا أن موعد الصعود إلى الجبل يقترب. وفي سنّ المراهقة كان انفعالي مضاعفا يسبب فرحتي بلقاء الشاب4 الذي أحببت، لبضعة أيام.
وهذه الفرحة رافقتني لسنين كثيرة وخلال سني العزل السياسي ما بين نابلس وحولون أيضا. على ضوء اتفاقية الهدنة بين الأردن وإسرائيل سُمح لنا في حولون العبور إلى نابلس مرّة واحدة سنويا، أثناء سبعة أيام عيد الفسح. ويذكر أن هذه الفرحة لم نحظ بها في السنتين ١٩٦٦-١٩٦٧. كانت تلك أعياد فسح عويصة بالنسبة لنا جميعا، منع الأردنيون دخول الكثيرين من شبابنا ومن ضمنهم كان ابني البكر5.
وفي اليوم السابع من عيد الفسح عند نهاية صلاة عيد المصّة حلّقت فوق چڤعات عولام أسراب من طائر اللقلق وتجمّعت لسرب واحد من على رؤوس المحتفلين. نظر أبي نحو السماء وصاح: “إن هذا علامة السلام”! إلا أن الكثيرين شكّكوا في هذا القول. وبعد مضي سنة، في عيد فسح العام ١٩٦٦ والذي كان قاسيا بالنسبة لنا جميعا حلّقت ثانية طيور اللقلق وأبي استمر في إيمانه بأن هذا التحليق يبشّر بالخير وتفاقم الوضع في عيد الفسح سنة ١٩٦٧ وظهر المشهد ذاته. وفي سنة ١٩٦٨ بعد حرب حزيران ١٩٦٧ احتفلنا بعيد المصّة الأول والطائفة موحّدة. عادت طيور اللقلق وأثبتت أن أبي كان على صواب وكان يعتقد أن تلك الطيور ما هي إلا ملائكة سلام. منذ تلك السنة وحتى هذا اليوم لم ترفرف طيور اللقلق فوق رؤوس المحتفلين.
١٠) أُعجوبة القربان
عبد حنونة بن إبراهيم الستري (الدنفي)
لم تحدث العجائب لآبائنا فقط بل ولنا أيضا. عادة لا ننتبه إلى المعجزة إلا بعد مضي سنوات وعندها نتذكر ذلك الحادث ونكتشف أنه كان أعجوبة.
حدث ذلك أيام الحرب العالمية الأولى، كنت فتى. ساد الجوع كل البلاد، تناقصت قطعان الغنم لعدم توفّر الغذاء ولأن معظمها قد ذُبح اضطرارا للأكل.
وقُبيل عيد الفسح صعد كل أبناء الطائفة كالمعتاد، قرابة المائة والخمسين نسمة إلى جبل جريزيم ونصبوا الخيام. وساورنا قلق حول تأمين الخراف لكي نقوم بفريضة عيد القربان. كنا بحاجة إلى بضعة خراف لا غير، ستّة فقط، اثنان لعائلة الكهنة ، اثنان لعائلة الدنفي، واحد لآل مرحيڤ (مفرج) والأخير لأسرة صدقة. دأب الكاهن الأكبر، متصليح (توفيق) بن فنحاس (خضر) النهوض باكرا كل يوم والذهاب إلى القرى المجاورة إلا أنه كان يعود خالي الوفاض. وكلما مرّ الوقت ودنا يوم القربان خشينا أن القربان لن يحصل لعدم توفّر الخرفان. وموضوع واحد فقط أشغل بال كل أبناء الطائفة، ماذا سيحدث يوم القربان، وهو يوم عيد، قد لا يكون عيدا.
وحلّ اليوم العاشر في الشهر وعنه قيل “في العاشر من الشهر أخذ كل امرء ماعزا” ولا وجود للخراف. وحتى البدو انتقلوا بقطعانهم بعيدا عن هذه البلاد التي تأكل ساكنيها. وهمّ آخر عشّش في قلوبنا: عرب بني كفر قليل المجاور كانوا يجبون منا كل فسح خروفا واحدا مقابل “الحراسة” والآن إن لم نتمكن من الحصول على هذا الخروف سيسيئون لنا.
وفي ليلة الرابع عشر من الشهر الأول طرأ تردٍ في الطقس. حتى السماء غاضية علينا، ظنّ الكثيرون. وفي الصباح الباكر نهضنا من نومنا للصلاة الأخيرة في صباح يوم القربان. ضباب كثيف غطّى الجبل وبصعوبة سلكنا طريقنا إلى مكان الصلاة. صلينا بتشبث شديد صلاة “ربنا فرّج عنا هذه المحنة التي نحن فيها”. وبينما كنا نصرخ ونولول وإذا بصوت أجراس يُسمع عن قرب. وفي الطريق بجانب مكان الصلاة اندفع من الضباب قطيع من الضأن كبير ووراءه راعٍ يخطو وعصا طويلة بيده.
كلنا ارتجفنا ولكن ليس من البرد. ּأوّل من استعاد قواه من الصدمة كان الكاهن متصليح بن فنحاس الذي سرعان ما ركض نحو الراعي قائلا بصوت عال: “الله أرسلك إلينا، هلا بعتنا خرافا من قطيعك”؟
هزّ الراعي برأسه من أعلى إلى أسفل وفي الحال تقدم الكاهن واختار ثلاثين خروفا حوليا كانت كافية لكل أيام الفسح. وعندما مدّ الكاهن يده ليدفع للراعي ثمن الخرفان ذُهل إذ رأى أن الراعي والقطيع قد اختفيا في الضباب.
هل كان هذا ملاك الله؟
١١) كعك عيد البواكير
يعقوب بن پيرتص صدقة
كانت سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين قاسيةً جدا علينا. وصل أبي، پيرتص مرحيڤ، مع أبيه وخمسة أشقائه إلى يافا في بداية القرن ولم يتبق من الإرث الذي أورثه لهم جدّي شيء. لم يجدوا عملا وكانت الأيام، التي عثروا فيها على كسرة خبز لسدّ رمقهم، أياماً جيّدة. كانت أمّنا، سعيدة، تبسط راحتيها وتقول: “يا أولاد، الوالد لم يعثر اليوم على عمل ولا يوجد عندنا ما يؤكل، إذن روحوا ناموا”. بكينا قليلاً وذهبنا للنوم على أمل أن يكون الصباح رباحا.
وفي اليوم الذي سمعنا فيه هدير البريموس وشممنا رائحة الطبيخ استبشرنا خيرا. أكلتنا المفضّلة كانت المجدرة، أرز وعدس. أكلنا الطبخة حبّة حبة، حبة أرز وحبة عدس كي نشبع من القليل.
حدث ذلك في آخر أسبوع عدّ العومر6، ليلة سبت الكلمات العشر7 المصادف يوما واحدا قبل الأسابيع. ولم نفكّر حتى بالسفر إلى جبل جريزيم بمناسبة الحجّ الثاني لعدم توفّر النقود. لم يكن لدينا حتى نقود لشراء القليل من الطعام لليلة السبت. وعلى مدار الأسبوع وزّعت أمُّنا علينا في كل مساء ثلاثة أرباع كسرة من الخبز ونزرا من الشاي شاحب اللون. وفي يوم الخميس وزّعت علينا كسرات الخبز الأخيرة. وفي يوم الجمعة قُبيل المساء عاد أبونا من السوق صِفْرَ اليدين. لم يبق لنا إلا أن نصطفّ في حجرتنا الصغيرة في حيّ العجمي8 منتظرين حلول معجزة. وهكذا جلسنا كلنا بهدوء عكّرت صفوَه أصواتُ شجار الجيران في الطابق الذي فوقنا، صيحات وخبط أشياء بالحيطان. وفجأة سمعنا خبطة خفيفة من الشرفة (الڤراندة) الصغيرة الملاصقة لشقتنا. لم نجرؤ على القيام لمعرفة ما سقط هناك. هبّت أمّنا وقالت للأب “يا پيرتص، قم ورَ ما سقط على الشرفة (الڤراندة) ”؟ “كل ما تقول لك سارة اسمع من قولها” (سفر التكوين ٢١: ١٢، إضافة ح. ش.) اقتبس أبي من التوراة وخرج إلى الشرفة وعيوننا تلاحقه. وبعد لحظة عاد وبيده قِلادة كبيرة من الكعك. سعيدة، يا سعيدة، نادى أمّي، “أنظري ما بعث الله لنا، كعكا لعيد الحصاد، إنّي عرفت أنه سيجد وسيلة لإنقاذنا”. ذلك الكعك كفانا لسبت الوصايا ولموعد البواكير. وبعد مدّة من الزمن حكى لنا جيراننا الذين تصالحوا للمرة كذا وكذا أن الزوجة ألقت تلك القلادة على زوجها أثناء الشجار، الذي دار بينهما فانحنى الزوج وطارت القلادة عبر النافذة المفتوحة، وحطّت على الشرفة. في تلك الأيام توترت العلاقات بين العرب واليهود ولم ينو أحد على الخروج في عزّ الليل للبحث عن كعك. سمع أبي كلام الجار وضحك. “إصبع الله هنا” وقال له “أشكُر الله أن قلادة الكعك التي لم تتعب في البحث عنها أنقذت بالتأكيد عائلة أخرى من الموت جوعاً”.
١٢) أبو شمط خفيف الحركة
صبري بن إسماعيل الدنفي
في تلك الأيام كان من الصعب في مدينتنا القديمة، نابلس، الحصول على لقمة العيش، وكل مواطن بحث عن طرق خاصّة به لتوفير القوت لبيته وكان من سلك طريق الحلال وأخرون درب الحرام.
أحد أولائك الآخرين كان رجلا خفيف الظل مسليا اسمه أبو شمط9، وكان مشهورا بخفّة يده واستغلّ تلك الخاصّية في انتشال ما في الجيوب وفي سرقات أخرى صغيرة. شكا سامريون كثيرون أنهم اختُلسوا كلما صادفهم أبو شمط إلا أنهم استصعبوا اثبات ذلك لخفّة يده.
ذات يوم رأى أحد كهنة الطائفة أبا شمط يسخر من شابين سامريين. وقبل أن تقدّم الكاهن ليُخطره حرَص على إخفاء كل ما يملك، قطعتي نقد ذهبيتين، بطيّات عمامته. وحال لحظ أبو شمط الكاهن هشّ وبشّ وصاح “أهلا وسهلاً” وربت بإصبعه على عمامة الكاهن علامة العشرة والمودة. وهذا الاستقبال الجيّاش أنسى الكاهن ما كان ينوي أن يقدّمه من تنبيه وتحذير لأبي شمط والتهى بما سمع من طرائف هذا العربي. وعلى حين غرّة قطع أبو شمط ما كان يسرُده وقال إنه مستعجل واختفى.
وبعد ذلك عندما همّ الكاهن دفْع ثمن ما اشتراه من خضراوات لم يجد نقوده. عندها فهم أنه وقع فريسة لخفّة يدي أ بي شمط. ورأسا هرول الكاهن إلى الشرطة البريطانية لتقديم شكوى ضد النشّال. ضابط الشرطة احترم الكاهن وأمر بإحضار أبي شمط إليه حالا.
عندما جيء به صائحا “ما خطيئتي، ما اثمي”؟ قال الكاهن للضابط “هذا هو، اسجنه”. “كيف تتّهم مواطنا صالحا مثلي بالسرقة” أجاب أبو شمط وأردف قائلا “كيف أعمل شيئا كهذا لكاهن يعتمر عِمامة محترمة كهذه”؟ وربت بيده الخفيفة ثانية على العمامة معيدا قطعتي النقد إلى محلهما. “أقسم بذقن النبي، سيدي الضابط، أنني لم آخذ منه شيئا”.
“أين وضعتَ نقودك”؟ سأل الضابط.
“هنا بين طيّات العمامة” أجاب الكاهن، ودسّ أصابعه في العمامة ليُري الضابط المطرح بالضبط ولكنه، ويا للعجب، وجد القطعتين النقديتين هناك.
“ها ترى يا أيها الكاهن أن النقود عندك وأُقسِم أني لم أمدّ يدي إلى عمامتك الموقرة للسرقة أبدا” قال أبو شمط، وربت ثانية بخفّة على عمامة الكاهن واستلّ بمهارة فائقة القطعتين.
فرح الكاهن بالعثور على نقوده وبأن أبا شمط لم يكنّ له حقدا على اتّهامه. ولكن عندما وصل الكاهن إلى بيته تيقّن أن المسرور الحقيقي كان أبا شمط، خفيف اليد.
١٣) وبرنية الزيت ستبقى10
زڤولون11 بن يوسف ألطيف
لا تؤمنون بالمعجزات؟ أنا أقول: المعجزات تحدث اليوم أيضا. بأمّ عيني رأيتُ ولم أكن فتى غارقاً في الأحلام، بل شاب يعرف ما يرى أمامه. حدث ذلك في بيت أبي في نابلس في سنوات المجاعة القاسية، ثلاثينيات القرن العشرين. البَطالة كانت ضاربة أطنابها والجوع كان ضيفا مقيما في بيوت السامريين. بالكاد توفّرت لنا كِسرة خبز واحدة في اليوم. والزيت كان من الكماليات، إذ توفّر فقط عند البعض القادرين على شرائه. دأب أبي على الخروج من البيت باكرا للبحث عن لقمة عيش لإعالة أفراد عائلته الكثيرين ولكتّه كان، على الأغلب، يعود صِفر اليدين.
وفي يوم من الأيام فاجأنا الوالد ببرنية فخار كبيرة ملآنه بالزيت. والزيت كان فاخرا، من أشجار الزيتون المعمّرة التي تزيّن سفوح جبل جريزيم. وروى أبونا أنه حاز على البرنية12 في صفقة تبادل ولم يفصح أكثر. ولم تجرؤ أمُّنا أن تستفسر منه عمّا أعطى مقابل الزيت. وفي صباح كل يوم باكرا كان تقوم أمّنا وتغرف بمغرفة كبيرة زيتا أخضر فاتحا للطبخ والقلي ووضعت منه في قصعة خشبية لأفراد أسرتنا الجياع.
مضى أسبوع، أسبوعان، شهر، شهران ومغرفة الزيت لم تنضب. أمّي لم تبال طالما أن المغرفة تعود ملآنة بعد دسّها إلى قعر الجرّة. أما أبي فقد كان منهمكا بشؤونه وكان يعود إلى البيت في معظم الأيام خالي الوفاض دون أية لقمة عيش. وفي تلك الأيام القليلة التي وجد فيها أبي بعض الطعام كان ذا مزاج جيّد واستمتعنا بالجلوس أمامه وسماع قصص عن حيوات أبائنا.
وفي أحد تلك الأيام الخيّرة، بعد شهرين تقريبا من إحضاره بَرنيّة الزيت، تذكّرها الوالد والحيرة على وجهه. “يا زوجتي” صاح فجأة، “كيف ما زال لديك زيت لنا ولأفراد أسرتنا، وما كان في البرنية يكفي بالكاد لأسبوع”!
“إني لا أعرف أيضا”، أجابت الأمّ، “لكنّي في كل صباح أغرُف عدّة مرّات زيتا من البرنية لنا جميعاً ولم أنظر أبدا إلى البرنية لأرى كم بقي من الزيت. ربّما حلّت بركة الله فيها.”
“لا يمكن!” ردّ الوالد مرتاباً. اقترب من البرنية، رفع الغطاء ونظر نحو قعرها. كانت البرية جافّة تماماً، حتى ولا قطرة واحدة.
“هذا قصاص من يتحدّى الحظّ السعيد”، قالت الأمّ بحزن، ولم تضف شيئا.
١٤) هذه وجبة وهذا أجرُها
إفرايم بن متصليح يهوشوع
نهاية الستينيات من القرن العشرين كانت قاسية علينا. سكنّا كلنا في شقة مؤلّفة من غرفة واحدة وعشنا من مبلغ ضئيل مخصّص من الجوينت13 سدّ رمقنا لبضعة أيام. أبي كان خيّاطا، ولكن منِ امتلك آنها مالا لشراء الملبس؟ وفي كل يوم كان أبي يردّد قوله، موتي أفضل من حياتي، إلا أن وضعه الاقتصادي لم يشوّه شيئا من صورته الآدمية.
وفي ذات يوم وصل إلى أبي ضابط بدوي من الفيلق الأردني، كان في معسكر المدينة وطلب رداء. كانت فرحة الضابط من اللباس الذي أعدّه أبي كبيرة لدرجة أنه منح أبي دينارا كاملا أجراً له. لم يصدّق أبي ما رأت عيناه. إنه لم يتقاض قط دينارا كاملا في يوم واحد، فبدأ فورا بالصلاة والشكر لله تعالى. وبينما كان يتضرّع بهدوء تامّ، لم ينتبه إلى الضابط البدوي الذي كان يُمعن النظر فيه باهتمام. تنخّم (نخع) الضابط للفت انتباه الوالد فسأله:
“ما هذه اللغة التي تصلّي بها؟”، “أنا سامري”، أجاب أبي.
“أنت سامري؟”، دُهش الضابط وقال “إني أبحث منذ وقت ما عن واحد من السمرة.”
“من المؤكّد أنك تبحث عن كاهن ليخطّ لك تعويذة (حجاب، رقية) وأنا لستُ كاهناً، إني سامري بسيط”.
“لا أفتّش عن تعويذة، بل سمعتُ، ولا تُخبر أحدا عن هذا، أنكم تُنتجون عرقا ممتازا. قل لي أين تسكن وسآتيك غدا ظهرا لأشرب قليلا.” “أهلا وسهلا، ” أجابه والدي، “يسرّني أن تستضيفني في كل وقت.”
خرج الضابط، وأسرع أبي ليستعدّ للزيارة. كان الدينار الذي تلقّاه كل ما يملك من مال ومع هذا لم يتوان بواجب الضيافة حسب الأصول. وفي طريقه إلى البيت اشترى أبي من السوق ديكا سمينا، أوراقا طازجة من كرمة العنب، وكوسا من الحجم الصغير المنتفخ، بندورة، بصلا وخيارا. لم يشتر عرَقا، فالسامري يقدّم لضيوفه عرقا من انتاج بيتي فقط ومحفوظ لمثل هذه المناسبات الخاصّة.
“يا نجلة”، نادى أبي أمّي حال وصوله البيت، “أسرعي اعجني العجين واعملي كعكا”. أخذ هو الديك مسرعا إلى الجزّار ليطبخَه مع ورق الكرمة المحشي بالأرز وربّ الطماطم. حشا أبي أيضا الكوسا بلحم الديك وأعدّت أمي السلَطات. ونحن ساعدنا في إعداد المائدة ووقفنا حولها ولُعابنا يسيل إزاء هذه الوجبة التي لم نذق مثلها منذ مدّة. أنفق أبي الدينار اليتيم الذي تقاضاه على هذه الوجبة.
سُمعت طرقة على الباب وإذا بالضابط مع صديقين له. دعاهم أبي للجلوس إلى المائدة وفتح زجاجة من العرق برقت برؤيته أعين الضيوف. وبعد الاستمتاع بتناول الطعام ودّعوا أبي، وبعد أن اعتلى الضابط صهوة حصانه، دعا أبي لزيارته في معسكر الجيش. كان الضابط على علم بأن سامريا لا يأكل شيئا عنده ولكنه أحسّ بضرورة مكافأته على الضيافة الحاتمية. ردّ أبي بقوله إنه قام بالواجب الملقى عليه وينبغي على الضابط ألا يشعر بأنه مدين له بشيء. ضحك الضابط وكدّ حصانه ومعه صاحباه.
في اليوم التالي وصل أبي المعسكر وتبيّن له أن ضيفه بلحمه وشحمه كان قائد الكتيبة. سُرّ الضابط باستقباله وبعد أن استراح على كرسي دسّ يده بجلبابه واستلّ صرّة من النقود. توقّف أبي عن التنفس، خمسة دنانير كاملة سالمة.
“لاحظت أنكم فقراء” قال الضابط، “ومع هذا لم تقتصد واستضفتنا كملك. حقا، أنتم أيها السمرة، شعب حكيم ؟يّ. خذ هذه العطية فإني على يقين بأنك بحاجة ماسّة إليها.
رفض أبي بأدب إلا أن الضابط أجبره أن يأخذ النقود بل وسار به إلى كانتين (مقصف معسكر الجيش) وملأ له سلة من الحلويات والهدايا لأبناء عائلته.
منذ ذلك الوقت أصبح أبي والضابط صديقين حميمين وفي الخمسينيات من القرن الماضي، عندما غادر أبي نابلس وانتقل للعيش في حولون، كان الضابط البدوي آخر من ودّعه.
----
1. ١٩٢٥-٢٠ نيسان ٢٠١٠ كبرى ستّ بنات حسني (يفت) بن إبراهيم بن مفرج (مرحيڤ) صدقة الصباحي (الصفري) الملقّب بـ”سيدو”، رئيس سامريي حولون خلال نصف قرن من الزمان ونيّف، وزوجته مريم ، تزوجت باتية عام ١٩٤٣براضي صدقة النابلسي، والد بنياميم ويفت صدقة، محرري أ. ب. أخبار السامرة. عملت في سلك التدريس معلمة ومفتشة بضعة عقود كما وأسهمت متطوعة في تعليم الأولاد والنساء قراءة التوراة السامرية وفي نشاطات تربوية في أوساط النساء السامريات وأعدّت مع أختها تصپوره كتابا للطبيخ. سكن راضي وباتية في نابلس منذ الزواج وحتى ١٩٥١ ثم انتقلا مع ولديهما إلى تل أبيب فحولون.
2. في أعياد ثلاثة يحجّ السامريون إلى جبل جريزيم، عيد الفسح، عيد العرش وعيد الأسابيع.
3. مكان أشمخ العالم ومركزه، أنظر سفر التثنية ١٥: ٣٣، أقدس بقعة على جبل جريزيم، صخرة كبيرة مسطحة، حيث كان الهيكل وحيث سيُبنى في عاقبة الأيام. قدس الأقداس، الصخرة الكبيرة حيث كان مسكن النبي موسى وفق التقاليد السامرية. يمكث هنا السامريون مدة طويلة نسبيا وهم يرنمون شيراة هيام، قصيدة البحر، سفر الخروج إصحاح ١٥.
4. المقصود راضي صدقة، زوجها فيما بعد.
5. المقصود بنياميم (أمين) صدقة.
6. سبعة أسابيع ابتداء من يوم غد الفسح وحتى عيد البواكير، الحصاد.
7. أي الوصايا العشر واللفظة “الكلمات” هي الشائعة في هذا السياق في الأدب السامري العربي.
8. واحد من سبعة أحياء في مدينة يافا الساحلية العريقة، يقع جنوبي المدينة وفيه مبان يعود تاريخها إلى العصر العثماني. سمّي الحي بهذا الاسم نسبة لإبراهيم العجمي وقد أقام الحي موارنة أثرياء وبنوا هناك كنيسة ودير القديس أنطونيوس. بعد ١٩٤٨ سكن قادمون جدد في بيوت العرب الذين هُجّروا وللحي في فترة ما كانت سمعة سيئة لما جرى فيه من العنف والإجرام.
9. اسم عائلة عربية مسلمة في نابلس.
10. قارن ما ورد في كتيب راضي صدقة المذكور في الملحوظة رقم ٣، ص. ٤٣-٤٤.
11. أي زبولون (فياض)، أنظر أعلاه قصّة رقم ٦.
12. البَرنية بفتح الباء في العربية الأدبية وبالضمّ باللهجة الفلسطينية، إناء من الخزف أصغر من الجرّة بكثير يحفظ فيه الماء، الزيتون، الزيت، الحليب الخ.
13. منظمة يهودية أمريكية (American Jewish Joint Distribution Committee) غير سياسية وغير ربحية تأسست عام ١٩١٤ وتعمل لمساعدة اليهود في العالم لا سيما وقت الأزمات والطوارىء.