الشيخ ابو محمد صالح الجرماني
مواقف للشيخ ابو محمد صالح الجرماني : الشيخ ابو محمد صالح الكحّال, الشهير بالجرماني, علم من أعلام الورع والتقوى عند الموحدين الدروز, ومن اكابر المشايخ,والأعيان العارفين, و رأس الورعين, وصاحب الإشارات العالية, والهِمم السامية, والأنفاس الصادقة, والكرامات الخارقة, والمقامات الجليلة, والمكانات الرفيعة. كان من أبرز شيوخ الموحدين, بالرغم من أنه لم يتولَ اي مركز قيادي. ولم يسعَ يوماً لثروة او سطوة او نفوذ, لكن عظمته تكمن في طبيعة شخصيته, وفي ايمانه العميق بالله عز وجل, وحبّه وتفانيه في الذات الإلهية. وقد عُرف بين قومه بالنزاهة المطلقة, واشتهر بالصدق والأمانة والزهد والعبادة, كان يعتمر بعمامة بيضاء, ويرتدي قمبازا أزرق غامق, وعباءة على كتفيه. لم يكترث يوماً بملابسه, لكنه كان يحرص كل الحرص على نظافتها.له مواقف وأعمال كثيرة تشير الى ايمانه وذكائه وورعه وتقواه, وتدل على شخصية دينية فريدة من نوعها نستعرض فيما يلي بعضها. سئل ذات يوم, من أحد علماء الشام, عن اصله وعشيرته فقال :
"عشيرتك من احسن عشرتك, وعمك من عمّك خيره." يروى ان الشيخ ابو حسين ابراهيم الهجري, زار مع بعض المشايخ الموحدين بلدة جرمانا, وصادف أولاداً صغار يلعبون في الطريق, وبينهم الشيخ صالح الكحّال, ولمّا رأى الفتى صالح كوكبة المشايخ الأطهار, انفرد ولاذ بنفسه, واختبا وراء جذع شجرة جوز حياءً منهم. فتقدّم اليه الشيخ ابراهيم الهجري, وتفرّس فيه, ووضع يده المباركة على رأسه الشريف, وقال لمن حوله, من أهل البلدة, بعد ان تلا عليه آية من آيات الذكر الحكيم: "إحتفظوا بهذا الغلام, فإنه سيكون أصلح اهل زمانه". كان يملك بستاناً في جرمانا, أوقفه على البر والخير, وأوقف حصته من المياه الذي يسقي فيه, وعُرف عنه انه لم يذق او يتناول من غلال بستانه اي ثمرة من ثماره, وكان يوزعها لوجه الله تعالى. ورُوي انه في أحد الأيام جاءه جمل يحمل على ظهره كيسين من البرغل, هدية له من جبل العرب. وجاءه في نغس الوقت خابية من العسل, من إحدى قرى الموحدين العامرة في جبل الشيخ, فأعطى العسل لجبل العرب مع صاحب الجمل, وأعطى البرغل لجبل الشيخ . تحدّث عنه الكاتب مارون عبود قائلا :" الشيخ ابو محمد صالح من جرمانا, كان يوزع غلة اراضيه على الفقراء, ويعيش من ثمن السلال التي كان يصنعها هو ويبيعها في دمشق, فلم يمد يده الى حاصلاته لأنه لم يتعب في استثمارها. كان من المأثور عند المؤمنين الموحدين القاطنين في دمشق, ان الشيخ ابو محمد صالح, عندما كان يؤذن للصلاة ويقول الله اكبر الله اكبر, كان كل من يجلس جلسة غريبة, او واضعا ساقا على ساق, يعدّل جلسته ويستقيم حاله. والفتاة التي تكون في دارها حاسرة الرأس, تتلثم وتتنقب على الفور, وتقف بخشوع ووقار, الى ان ينتهي المؤذن من آذانه. ورُوي عنه, ان رجلا من السويداء, كان عليه دين لأحد سكان دمشق, وقدره ثلاثون مجيدية, بموجب سند مكتوب. ولم يتمكن الرجل الفقير من وفاء دينه, فحضر الى التاجر ليعتذر منه, معترفا بتقصيره. وبعد ان يأس التاجر من الحصول على نقوده قال له, إذهب الى الشيخ ابو محمد صالح الجرماني, وادعوه ان يدخل حانوتي ويبارك في رزقي وأنا اسامحك بالنقود. فذهب إلى المدينة ودعا الشيخ فلبّى طلبه بكل تواضع, بعد ان حذّره بقوله :" إياك ان يكون معك مصاري وتزل معه". قال المدين صدّق ما معي. فركب عندئذ دابّته البيضاء, ودخل محل التاجر, وقرأ ما تيسّر, ففرح التاجر, وأحضر السند ومزقه وقبّل يد الشيخ شاكرا له, وحامدا الله على هذه البركة التي منّ بها عليه. ورُوي عنه ان أحد الموحدين أحضر له كمية من القمح من شهبا وعندما وصل فتح له البوابة ولم يكن يعرف الشيخ من قبل, فسأله الجمال: أين الشيخ أبو محمد صالح الجرماني, فأجابه الشيخ : قريب, فقال الجمال إذهب واخبره حتى يأتي ويستلم القمح. وبدأ ينزل القمح معه فألح عليه الجمال بالذهاب وإعلام الشيخ بوصول القمح, والشيخ يجيبه بكل هدوء بأنه قريب, واستمر بمساعدته فغضب منه الجمال, وقال له, لست بحاجة لمساعدتك, إذهب وأحضر الشيخ في الحال, فأجابه باطمئنان وهدوء أعصاب: يا بعدي أنا الذي يقولون لي شيخ,فكسف
الجمال نظره واستحى وأطرق رأسه خجلا وقدم الإعتذار للشيخ مع طلب صفاء الخاطر. ذكر عنه أنه قام عدة مرات بزيارة مقام النبي شعيب (ع) في حطين وكان عندما ينوي زيارة المقام يعرض على مشايخ بلدته هذا الأمر قبل موعد الزيارة. وعندما يحين موعد الزيارة يحمل كل شخص زوادته معه وعنما يصلون إلى المقام الطاهر يستقبلهم الموحدون من البلاد وتجري السهرات الدينية. زار الوالي العثماني حسين ناظم باشا بلدة جرمانا وطلب مقابلة الشيخ صالح ولما أتى بثيابه العادية, قام جميع الموجودين في المضافة وانتصبوا إجلالا وإكراما له ولم يقبل الوالي إلا أن صافحه بحرارة, وأحنى رأسه له ورحب به وطلب منه الجلوس بجانبه وعامله بالإحترام والإكرام. ووعندما ترك الشيخ الديوان صرح الوالي للأهالي المدعوين:" عندما دخل الشيخ صالح من باب هذه المضافة شاهدته وكأن كوكب مضيء يتلألأ" فأجابوه : نحن هنا نعيش ببركته. وعندما توفي الشيخ صالح عام 1911 اهتز الوالي من أعماق قلبه وسارع على رأس وفد من قادة دمشق بالقيام بواجب التعزية في جرمانا. ولما وقف أمام النعش المسجى قبله وقال بصوت مرتفع: سلام إلى الراحل الحاضر, اللهم إرحم درويشنا الشيخ صالح وأسكنه جنات النعيم" زاره وفد من علماء الشام من الجامع الأموي في داره في جرمانا ولما خرجوا من بيته قالوا: " لقد زرنا اليوم رجلا عاقلا وسمعنا عن الصوفية الشيء الكثير وخرجنا من داره بعد أن تيقنا بأنه يتكلم بلسان العارفين بالله المحقين". وقال عنه أحدهم" الشيخ صالح الدرويش, هو أكبر عارف في وقته." وقام بزيارته أمير البيان شكيب أرسلان واطلع عن كثب على بعض مآثره وأعجب به إعجابا شديدا والتفت إلى من حوله وقال: " والله إن الشيخ صالح حبب إلي العلماء, العالمين, العارفين وأستطيع أن أؤكد جازما أنه أمة في رجل."
المصدر:
كتاب القاضي ربيع زهر الدين : سيرة العامل العالم الشيخ الجرماني،
دمشق 2000.
منقوول