ثلاث توراوات مسروقة جَدّدت صداقة
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها الكاهن الأكبر يوسف ابن أبي الحسن (حسده) الدنفي (١٩١٩- ١٩٩٨) بالعربية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ١٧-١٩.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتصون) صدقة الصباحي (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
” خِلاف بين الكهنة الرئيسيين
إذا ظننتم أنّ الخِلافاتِ في الرأي بين أبناء الطائفة، تميّز الحاضر فقط، فإنّكم مُخطئون. كانت خلافات كهذه في الماضي وستكون إلى الأبد، ربّما كان هذا سرّ كينونتنا، والأمر الذي يحفظنا. لكن، عليكم أن تعرفوا أنّه مهما كانت الخلافات في الرأي بين أبناء الطائفة، وبين عائلة وأخرى فإنّها وقت الضيق تتلاشى، والكل يتّحد في جسد واحد صُلب، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بإلحاق الضرر بالدين والتقاليد، الكلّ يُصبح جبهة واحدة.
أَقُصّ عليكم قصّة حدثت أيام أبي، أبي الحسن بن الكاهن الأكبر يعقوب. إحتدمت خلافات بينه وبين إسحق بن عمران (عمرم) الكاهن الأكبر ومن خلفَه الكاهن الأكبر توفيق بن خضر (متصليح بن فنحاس)، خلافات مثلها مثل الخلافات التي كانت في الطائفة منذ القِدم. في تلك الفترة عاشت الطائفة في جوّ من الضغوط والخوف من جيرانها، ومن العِصابات التي دبّت الرعب والهلع في نفوس سكّان نابلس، عربًا وسامريين على حدّ سواء. كان هناك ما يشبه المنافسة بين العصابات المختلفة في مدى دبّ الرعب في قلوب أهالي نابلس، نتيجة لأعمال السرقة والابتزاز والسطو. كي يعيش أبناء الطائفة بسلام مع كل رجال العصابات سلكوا سياسة الحياد، عدم اتخاذ أي موقف مؤازر لأية عصابة. فضّلوا الوقوف جانبًا بدون تدخّل.
سرقة التوراوات
ذات يوم سبت، ذهب أبي كعادته إلى الكنيس. عند وصوله، شعر بأنّ غرباء كانوا في الكنيس. دُهش أبي جدًّا عندما وجد أن ثلاث توراوات قد سُرقت من خِزانة القدس، واحدة تدعى ”البيضاء“ واثنتان فنحاسيتان نُسختا قبل قرون بقلم كهنة ربّانين من بني عائلة خضر (فنحاس) الجليلة. تجهّم وجه أبي، وكَمنْ لسعه أفعى، هرول لاستدعاء الكاهنين، الكاهن الأكبر إسحاق بن عمران وتوفيق بن خضر. على الفوْر، نسِي الثلاثة الخلافَ الذي ’مرمر‘ حياتهم. بعد انتهاء الصلاة، اجتمع الثلاثة للتشاور حول ما ينبغي فعله. لا بدّ من إعادة السرقة بأيّة وسيلة كانت.
عند انتهاء السبت، نزل الكهنة الثلاثة إلى بيت الوجيه النابلسي ابن عائلة عبد الهادي أبي أحد البيوتات الهامّة والثرية في نابلس. استقبلهم عبد الهادي على الرحب والسَّعة، انحنى أمامهم طويلًا، مرحّبًا بهم بالتحية التقليدية: أهلًا وسهلًا، ثم سأل: ماذا أستطيع أن أفعل من أجلكم ولم أفعله؟ سألهم عبد الهادي بكلمات حلوة لطيفة: أُطلبوا ما يحلو لكم، ها أنا على أُهْبَة الاستعداد لتحقيق إرادتكم، إذ أنّنا إخوة.
نظر كلّ واحد من الكهنة الثلاثة إلى الآخر، وأخيرًا قال الكاهن توفيق: ماذا نقول لك؟ إنّنا نشعر بالخجل والخفارة إذا ما طلبنا منك أمرًا قد لا يتسنّى لك تحقيقه. ”كلّ شيء بيد الله“ - قال عبد الهادي، ”ربّما منحني القوّة لتنفيذ رغبته، ما خَطْبكم“؟ قال له أبي الكاهن أبو الحسن: ”كنيسنا المقدّس اقتحم وسُرقت منه ثلاث توراوات قديمة، عزيزة وهامّة لديننا وتقليدنا. جئنا إليك لأنّنا مقتنعون بقدرتك على مساعدتنا“. أَطنب أبي في عبارات المدح والإشادة بمقدرة عبد الهادي وشخصيّته، فأثلج صدره.
”منَ الآن اعتبِروا الأمر مفروغ منه، سأعمل كلّ ما في وسعي لمساعدتكم؛ كيف تمكّن الأشرار القيام بهذا الفعل. إنّهم يستحقّون القصاص، أبناء الموت. إنْ أنجح الله مسعاي، فسأشعر بأنّي قمتُ بما ملقىً عليّ من أجل إخوتنا السامريين“، أنهى عبد الهادي كلامه. ابتهج الكهنة عند مدحهم إرادة عبد الهادي، بالرغم من أنّهم سرًّا، لم يُسقطوا إمكانية اشتراك عبد الهادي بما جرى.
المفقود أعيد والصداقة جُدّدت
بعد مُضِيّ أيام معدودة، سُمع طَرق على باب أبي، وإذا بعبد الهادي الشيخ فأدخله أبي وبعد التحايا المألوفة، همس عبد الهادي قائلًا: ”سيّدي الكاهن، أودّ أن أخبرك أنني أعرف مكان أسفار التوراة المسروقة، إلا أنّ الذين يحتفظون بها يطالبون بمبلغ مناسب مقابل إعادتها. حاولت جاهدًا إقناعهم بصوابية ديانتكم والأهمية الخاصّة لأسفار التوراة؛ ولذلك خفّضوا ثمن الفدية إلى ٢٠ ليرة“.
بالرغم من أن هذا المبلغ كان كبيرًا في تلك الأيّام، لم يتردّد أبي ولو للحظة واستدعى فورًا الكاهنين الآخرين، وأبلغهما بما قاله عبد الهادي. في البداية ذُهلا عند سماع المبلغ الضخم إلّا أنّهما سرعان ما استفاقا من المفاجأة. خرج الكاهنان توفيق وإسحاق وتوجّها إلى منازل السامريين، وسُرْعان ما وُفِّقا في جمع المبلغ المطلوب. دسّ عبد الهادي القِطع النقدية في جيبه الواسع، وغادر بيت والدي مسرعا. ما كان هناك خوف على نقود الفدية، إذ أنّ عبد الهادي كان محترمًا ويقف وراء وعده.
بعد ساعتين، فُتح باب البيت وشخص ما دسّ في الغرفة رزمة كبيرة مربّعة مغلّفة بالقماش. ּּأسرع أبي نحو الباب للتعرّف على الشخص، إلّا أنّه اختفى وكأنّه لم يكن. التوراوات الثلاث كانت داخل الرزمة. أمرني أبي باستدعاء الكاهنين، إسحاق وتوفيق. أتيا حالًا وشاركانا الفرحة بإرجاع ما سُرق.
دُعي كل أبناء الطائفة لما يُشبه الاحتفال بإعادة التوراوات إلى خِزانة القدس بالمجد والكرامة المستحقّين، ولكن الآن ليس إلى الخِزانة الخشبية العادية بل داخل خزانة حديد كبيرة مقفلة بإحكام. مكافأة إعادة المفقود تمثّلت بما ساد من سلام وصداقة، منذ ذلك الوقت بين والدي والكاهنين الآخرين، لدرجة أنّه في كلّ مناسبة كانوا يتذكّرون هذا الحادث ويُثيرون الشُّبهة في أنّ جابي الفدية قد يكون الشخصَ الذي قام بهذا الفعل الفظيع“.