جواب صائب على الدوام
A Just Answer Permanently
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن عاطف بن الكاهن الأكبر ناجي الحفتاوي [ليڤي بن أبيشع، ١٩١٩-٢٠٠١، كاهن أكبر ١٩٩٨-٢٠٠١، مثقّف وقارىء للتوراة قدير، شاعر] بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٤٣-٤٦. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري يعيشون في مائة وستين بيتًا تقريبًا، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”ما يضمَن وجودنا
إذا أردنا ٱلاستمرار في المحافظة على وجودنا فما علينا إلّا ترصّد خطواتنا داخل الشعوب، التي نعيش بينها، ولا سيّما صيانة لساننا، كقول المثل المعروف: لسانك حصانك إن صنەته صانك وإن خنْته خانك. قال أعظم المفسّرين والشعراء وأحصف من جميع كهنتنا مَرْقِه عليه السلام: الإنسان يمحو ذاته بيده ومن يقدر على المجيء لإنقاذه. كما قال بحكمته الغزيرة أيضا: لا يجد العمل المشين مكانًا يذهب إليه إلى أن يقفِل عائدًا إلى فاعله. لذلك علينا أن نعترف دائمًا بقوّتنا الضئيلة، وأن نكون حذرين بأقوالنا وبأفعالنا. كلّ ذلك ينصبّ في خانة هدف واحد وهو ضمان استمرار وجودنا.
هذا هو سلوكنا منذ أمد بعيد مع كلّ جيراننا والجهات المسيطرة أو المسؤولة عنّا. لم نتصرّف دائمًا بهذه الطريقة، لأنّنا لم نرض بالاعتراف بتعدادنا الضئيل مقارنة بالأعداء العِظام الذين انقضّوا علينا فتناقص عددنا، وكدنا نتلاشى من على وجه الأرض، التي أقسم الله لآبائنا إعطائها لنا، الأرض التي تدرّ لبنًا وعسلا.
بلى، منذ أن بدأنا بانتهاج هذه السياسة بدأنا بالتعافي وبزيادة عددنا. الفضل الكبير في هذا يعود للكهنة الكبار الأواخر الذين أبحروا بسفينة الطائفة هذه بين أمواج السلطات المختلفة في هذه البلاد. هنالك، على سبيل المثال، الكاهن الأكبر عمران بن سلامة وممثلو الحُكم التركي في البلاد في منتصف القرن الماضي.
الحاكم المحلي ٱعتدى عليه وأهانه أمام الجميع. إنّه أمر أن يُركبه على حصان ووجهُه إلى الخلف ويداه مربوطتان بذيل الحصان وذلك بسبب ادّعاء كاذب بأنّ الكاهن قد مسّ بشرف جندي تركي.
تحمّل الكاهن الأكبر هذا المشهد المذلّ جدّا بصمت، ولم ينبس ببنت شفة. علم أنّه إذا اشتكى لدى جهات عليا فإنّ ذلك سيتسبّب بحلول مصيبة على كل طائفته الصغيرة، التي بلغ عددها آنذاك ١٥٠ نسمة فقط. إنّه كظم العار والخِزي ولاذ بالصمت وإيمانه بالله قوّاه بصمته.
الكاهن الأكبر أبو واصف
نهاية ذلك الحاكِم العسكري التركي كانت مريرة جدّا. لقد فضّل الكاهن الأكبر صالحَ شعبِه على مصلحته الشخصية، وتنازل عن شرفه حفاظًا على استمرار بقاء شعبه، كما فعل بعده كاهن أكبر آخر، عمّي توفيق بن خضر (متسليح بن فنحاس) المعروف للجميع بكنيته العربية ”أبو واصف“.
كنت قد ذكرت عظَمة أبي واصف وشرفه العظيم في أعين المخلوقات أكثرَ من مرّة في قصصي، ولم يتخلّف بهذا الصدد محدثون آخرون. سناء وجهه الجميل وقامته الممشوقة مثّلا أبرز ما في كهنة السامريين. شخصية بارزة لها حضورها المركزي في أوساط السلطات في نابلس وفي لقاءات وجهائها، زعماء الحمائل الكبيرة في نابلس.
كان يشترك في تلك اللقاءات رجال دين وشيوخ مسلمون، ولم يفوّتوا أيّة فرصة في تعثير الكاهن الأكبر السامري في مسائل دينية، وبمواضيعَ ذات صلة بالفروق بين التقاليد السامرية الإسرائيلية والدين الإسلامي. وكان الكاهن الأكبر توفيق قد تخطّى كافة العوائق والعثرات التي نصبت له، إلّا أنّه خرج من كلّ جدال باحترام ووقار ممّا زاد من المعاملة الطيّبة التي كانت سائدة عادة بين وجهاء نابلس والسامريين.
معاملة رجل الشارع في نابلس للسامريين كانت مختلفة. جهّال عرب نابلس لم ينقطعوا عن إغاظة وإهانة السامريين، وكان يحرّضهم على ذلك وُعّاظ وعلماء دين في المساجد. مشاهد إذلال الشباب السامري ونزع طرابيشهم من على رؤوسهم وإطلاق قهقهات التهكّم والسخرية كانت يومية، وقلِ الأمر ذاتَه بخصوص الإغاظة والتحرّش بدون أيّ سبب، وعانى السامريون وصمتوا.
لقاء وجهاء نابلس
على خلفية هذا الواقع، مارس الكاهن الأكبر توفيق بن خضر عادة الاستضافة التي ٱشتهر بها، كما قام بردّ زيارات وجهاء عرب نابلس بكلّ كياسة وأدب. واعتاد الوجهاء في لقاءاتهم التحدّث عن التطورات السياسية في المنطقة [محاربة المحتل البريطاني والمناوشات بين اليهود والعرب] وعن مواضيعَ محلية. يُذكر أنّ هذه اللقاءات كانت تحدّد عادة نهج كلّ نابلس السياسي. بين الفينة والأخرى، كان رؤساء المدينة يتوجّهون إلى الكاهن الأكبر لسماع رأيه حول مواضيعَ شتّى.
دأب الكاهن الأكبر توفيق على الإجابة بحذر شديد، وأحيانًا بلغة غامضة تُفهم على وجهين، وذلك لإرضاء كافّة الأطراف، إلّا أن هذه الحقيقة لم تمنع الوجهاء في إحدى الحالات من إرغام الكاهن الأكبر على نشر بيان أرضاهم هم، وأثار نقاشًا في الطرف الآخر المخالف. والجدير بالذكر أنّ إجابة الكاهن توفيق في جُلّ الحالات كانت تُرضي سامعيه.
معظم الأسئلة، كما نُوّه، كانت حول الشؤون الدينية، وقسم ضئيل منها تطرّق لمواضيع سياسية أو هدفه كان الاستهزاء والسخرية لا غير. عن إحدى الحالات التي حاولوا فيها الاستهزاء بعمّي توفيق، أقُصّ عليكمُ الآن. عندما كان الكاهن الأكبر يدخل إلى أحد تلك اللقاءات كان يقف الجميع دائمًا احترامًا له، ويدعوه صاحب المنزل للجلوس في صدر قاعة الضيوف الرحبة. وكان الخدم يبذلون جهدهم لتجهيز أرجيلة فاخرة بسرعة، ووضعها مقابل مقعد الكاهن الأكبر أبي واصف، وصاحب البيت يُناوله بوقار بربيش/نبريج الأرجيلة.
بالطبع كان الكاهن الأكبر يرفض في البداية العرض معتذرًا بأنّّه لا يودّ إزعاج مضيفه. وبعد بعض الإلحاح كان يقبل ويمسك فوّهة الأرجيلة بيده، ثم ينفث الدخان بدماثة جدية وباعتدال شديد، والجميع منفعل من أبّهته ووسامته.
مذاق فضلات الغنم
ذات يوم توجّه أحد شيوخ المسلمين إلى الكاهن الأكبر قاصدًا إغاظته وإذلال ”الكفرة السامريين“ أبناء طائفته، وطريقة طرح السؤال كانت بمثابة حفل بحدّ ذاته. في البدء طلب السائل من صاحب المنزل أن يعمّ الهدوء في أوساط المجتمعين الكثر، الوجهاء، علماء الدين والشيوخ من قرى نابلس لبلوغ أقصى الانتباه والاهتمام. بعد ذلك وفي الجو الهادىء الذي خيّم، قال بصوت جهوري متوجهًا نحو الكاهن ومعتذرًا بشكل لم يُبق أي مجال للمسؤول إلا الإجابة.
يقال عنكم، أنتم أيّها السامريون بأنّكم الخبيرون بكل شيء على وجه الأرض، وعليه ٱسمح لي أيّها الكاهن أبو واصف إذا أزعجتك بسؤال يُقلقني منذ ليالٍ كثيرة، ولم أعثر على جواب له. إنّكم تدّعون أنّكم أبناء يوسف الصدّيق الذي علم الإجابة عن كلّ سؤال، فهلا يتكرّم الكاهن في الردّ على سؤالي مهما كان مربكًا ولا أقصد المسّ بشرفك، حاشى وكلّا.
تفضّل يا حضرة الشيخ، أجابه الكاهن أبو واصف، إسأل فالحلول عند الله. بما أنّكم، كما نوّه، خبيرون بكل شأن، ابتسم الشيخ، هلّا قلتَ لي أيها الكاهن أبو واصف، ما مذاق فضلات الغنم، أحامض هو أم مالح؟ انطلقت أصوات من كل جهات القاعة تنمّ عن عدم الرضا من هذا السؤال المستهزىء المؤلم، ولكن الكاهن أبو واصف لم يتراجع ولم يرتبك ولو للحظة واحدة. ابتسم ابتسامته المشرقة والتفت إلى الشيخ الوقح:
من لا يعرف جوابَ هذا السؤال، عليه أن يُجرّب التذوّق من فَضَلات الغنم ملء فمه كي يتحقّق من طعمها؛ ولكن نحن السامريين معفيون من ذلك لأنّ الله تعالى أرشدني لتقديم إجابة منطقية عن سؤال ؟، لا معنى له، استميحك عذرًا يا حضرة الشيخ.
أصوات الموافقة سُمعت من كلّ جهة، وتابع الكاهن أبو واصف: كما أنّ الذُّباب لا يرفرف على الملح ويتحاشى لمس الليمون، إلّا أنّه يرفرف بكثافة على فضلات الغنم، وعليه فالمنطق السليم يُثبت بأنّ طعم فضلات الغنم حلو بالنسبة للذباب.
كلام رائع، علّق الحضور ؟ِروا من خذلان الشيخ وسقوطه“.