أُعجوبةُ مريمَ من نابلسَ
The First World War
The Miracle of Miriam from Nablus
By the Brothers: Rāḍī and Samīḥ Sons of al-˒Amīn Ṣāliḥ Ṣadaqa
(1922-1990, 1932-2002)
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 116–134.
جنديّ تركيّ جائع آخرُ، يبحث عن طعام- ردّتِ المرأة على سعد، وكانت على وشك إغلاق الباب وهي تصرخ ناحية ممدوح - روح من هون، بالكاد عندنا ما نتناوله نحن! روح من هون، اليوم يوم السبت!
دسَّ ممدوح طرفَ حِذائه بين الباب المنغلق والعتبة (الأُسْكُفّة)، فتراجعتِ الامرأةُ مفزوعة.
ما حدث لك يا ستّ/امرأة؟ سأل ممدوح بصوت مرتجف - ألا تعرفينني؟ إنّي ممدوح صالح صدقة، ابن عائلتكم!
ممدوح، آشِر؟ صرختِ الامرأة/دبّت الصوت، ممدوح صدقة؟ آه، آه، ممدوح ما مات!
ممدوح حيّ/طيّب، ما مات! صاحت وهي ما فتئت تنظر إليه برِيبة شديدة، وتحاول التعرّف عليه، هذا الرجل عريضُ المنْكِبَيْن، الملتحي، أحمرُ الوجنتيْن، البسّام، وذاك الفتى النحيل الواهن الذي عرفته قبل أربعة أعوام.
الآنَ، توقّف سعد عن القراءة أيضا. قام من على سَجّادة الصلاة وراح بسرعة إلى مدخل البيت.
ما لك يا امرأة؟ لماذا تقفين في طريقه؟ زعق سعد. وقف هو أيضًا هُنيهة، لبضع ثوانٍ، ونظر إلى ممدوح صدقة. فتح الباب على مِصْراعيه، سُرعان ما عانق ممدوح، وضمّه إليه، وربّت عليه وبكاء الاثنين امتزجا. وقف الرجلان في مدخل البيت، وأنّات بكائهما وصلت الجيران، فجاؤوا جميعًا إلى الزُقاق، وحاولوا تهدئتهما رويدًا رويدا.
بعد أن انتهت موجة البكاء، لم يبقَ سوى وجهَي سعد وممدوح المفعمين بالجَذَل. ما زال ذكي وإسرائيل ابنا أخي حيّيين وسأراهما قبل أن أموت! هتف سعد بفرح عظيم. تعالَ، تعال، اُدخل يا حبيبي، يا مهجةَ قلبي، لماذا تقف في الخارج؟ أمسك سعيد بيدي ممدوح وأدخله إلى البيت. وقال للجيران: ما بكم تجمهرتم فجأة، ليذهب كلّ إلى بيته. تعالوا إليّ في المساء كلّكم لمشاركتي فرحَ عودة ممدوح قريبي!
همس الجيران ببعض التبريكات على رأسيهما، غادروا راضين، ليفرحَ سعد وممدوح معًا.
”الملِك مخلّصي من كلّ سوء “
اصطحب سعد ممدوحًا إلى داخل البيت الصغير، الذي عرفه ممدوح منذ أيّام طفولته. وضّب/رتّب سعد الوسائد والأريكة العريضة في صدر الغرفة، ودعا ممدوحًا للجلوس معه. وكأنّ تِلاوة النوبة قد نُسِيت. تفحّصت نساء البيت ممدوحًا بحُبّ استطلاع جمّ، واتّفقن بالإجماع على أن الحرب قد أحسنت جدًّا لممدوح صدقة. بدا مفعمًا بالقوّة وصُلبًا جدًّا، شهوة لعيني التي ستحظى به زوجا.
ولم يُخفِ سعد حبَّ استطلاعه أيضا. وبعد أن حرَِص سعد على أن يتناول ممدوح شيئًا من تشكيلة السلطات المحدودة، طلب أن يطرحَ عليه آلافَ الأسئلة حولَ أخباره وعن ابني أخيه؛ لكن شخصًا كسعد صدقة، لا يدنّس السبت بأمورٍ عاديّة غير مقدّسة. أشار سعد لإحدى نساء البيت فجلبت لممدوح قميص السبت، قمبازًا ليلبسَه لحُرمة السبت. استفاق ممدوح فورًا من الحُلم الذي لم يرغب في أن يتوقّف أبدًا. خلع قميصه وعلت أصوات انفعال النساء اللواتي رمقن بحياء ذراعي ممدوح الغليظة والعريضة، وعضلات كتفيه المفتولة.
كان القميص ضيّقًا عليه، لكن هذا ما كان متوفّرًا في البيت. أخيرًا، بعد جُهد جَهيد تمكّن ممدوح من ارتداء القميص. عاد وجلس جلسة شرقيّة، تربّع. بسرعة ناوله سعد سِفرَ توراة بخطّ أخيه نمر سلامة. أمسك ممدوح الكتابَ بوَرَع ووقار. مرّت أربع سنوات دون أن يمسك سفر توراة بيده. تصفّحه، وعيناه تمرّ على الخطّ العبريّ القديم، امتلأت ثانية بالدموع. ولمنظره بكى سعد بصمت أيضا.
مرّر ممدوح يده اليمنى على وجه الكتاب، ثم مرّرها تبرّكًا على وجهه. كرّر ذلك مراتٍ كثيرةً ولم يحتجّ على ذلك سعد. كان يُدرك جيّدًا اضطرابَ مشاعر قريبه. كما أنّه لم يحاول الاحتجاجَ على النسوة اللواتي اهتجن لمنظر ممدوح وهو يبكي فبكين بصوت عالٍ.
الملك مُخلّصي من كلّ سوء، الله راعيّ منذ الولادة وحتّى هذا اليوم، أرسل ملاكه أمامي ليحميني في كلّ الطرق التي سرت فيها، قال ممدوح بصوت مرتعش. هو لم يتوقّف في إرشادي إلى أن وصلتُ هذا المكان.
أحنى سعد رأسَه بضع مرّات موافقًاعلى كلام ممدوح. بدأ من جديد، وبصوت مرتجف، بقراءة نوبة الأسبوع. منذ وفاة أخيه، لم يكن له مرافق في قراءة نوبة الأسبوع، والآن استدعى له الربّ لا أقلَّ من ممدوح الحبيب من بين أقاربه، ممدوح صالح صدقة، بلحمه وعظمه.
سُمِع مجدّدًا صوته المتموسق لذات اللحن القديم الذي صلّى فيه إبراهيم، أبو الأمّّة طالبًا إنقاذ لوط وشفاء أبيمالك، بنفس النغمة التي توسّل فيها موسى ثلاث مرّات من أجل شعبه. تابع ممدوح القراءة، ومرّر يده من جديد على وجهه تبرّكًا عند تِلاوة سعد: مبارك إلهنا إلى الأبد ومبارك اسمه إلى الأبد. وعندما أنهى سعد فقرته حان دور ممدوح. بدأ يقرأ ببطء وحالًا تبيّن أنّه لم ينسَ فوه توراةَ الله.
أجهش سعد بالبكاء من جديد.
بعد السكرة في فكرة/راحت السكرة وجاءت الفكرة
يقول المثل العربيّ: بعد السكرة في فكرة. [في الواقع يقول المثل العربيّ: راحتِ السكره وأجتِ الفِكره]. مضى وقتٌ طويل منَ الثَمَل من الفرح العظيم قبل أن يستفيق سعد سلامة ونساء البيت، شفيقة والدة ذكي وإسرائيل ابني نمر الصباحيّ؛ حُسُن زوجة ذكي الشابّة وزينب شهوان المسنّة، للتشاور بصدد تبليغ نابلس في اليوم ذاته بوصول ممدوح صالح حيًّا وبتمام الصحة والعافية بيتهم في طولكرم. وقد شعر الأخ الشاب مطيع باضطراب نفسه المفعمة بالخَبَل، بأنّ ثمة ما يُفرح في هذا اليوم العظيم وهو انفجر من الضحك المدوّي من حين لآخرَ فيسكته سعد بدون غيظ شديد كعادته.
أنتم لا تروْن ما رأيتُ - قالت لهم زينب شهوان، التي منذ وفاة زوجها نمر صدقة، أحبّت جدًّا المكوث في بيتهم في طولكرم وآثرته على السكن بعزلة في نابلس.
رأيت ضمنَ المتجمّعين عندنا، بعد أن خرجتُ لأفتحَ الباب لممدوح، شوقي الكرمول من نابلس، هذا الذي نُطلق عليه عادة الكُنية ”أبو ليلة“، لأنّه معتاد على التجوال في شوارع المدينة في ساعات الليل، التي فيها كلّ مواطن عاديّ يلزم بيته للنوم.
ماذا تقولين يا امرأة؟ قال سعد المسنّ بصوت عالٍ - هل أنتِ متأكّدةٌ مما رأت عيناك؟ قد يكون أتى لزيارة أقاربه في طولكرم أو ربّما يتسكّع، إذ أنّني لا أعرف قريبًا يقبل استضافته لعاداته الغريبة.
ممدوح صالح، سببُ الفرح، جلس في ركن الغرفة، وما زال يحاول هضم تطوّر الأحداث من حوله وسلَطات الخُضار المتنوّعة التي أعددْتها نساء البيت على عَجَل، ومثل مذاقها لم يذق منذ أربع سنوات.
شوقي الكرمول
لم ينتظر سعد، نادى فورًا حُسُن الصبيّة وأمرها بالخروج من البيت، للعثور على شوقي الكرمول وإحضاره إليهم. هرولت حُسُن بغبطة جمّة، خرجت من البيت بخطوات عجلى وصوتها مسموع من أوّل الشارع لآخره، منادية باسم شوقي الكرمول ومستفسرة من الجيران، أين هو وإلى أين ذهب. بعد وقت قصير وجدت مُرادَها/مبتغاها. شوهدت ماسكة بكُمّ مِعطف شوقي الكرمول وتجرّه إلى داخل البيت وهو يُلحّ عليها بلا انقطاع لتركه وشأنه.
بالرغم من عاداته الغريبة، لم يكن شوقي الكرمول منَ الأغبياء. وإن أظهر عدم الفطنة والحكمة، فبعض كؤوس العرق، النبيذ الأبيض السامريّ، لكافيةٌ لاستعادته حكمته. في الواقع، كان مسلمًا ابن مسلمين وشُرب الخمر محرّم عليهم تحريمًا مطلقًا، ولكن مَن كان بمقدوره الحرص على المحافظة على الحظر هذا، بعد أن تذوّق العرق اللذيذ الذي أعددتْه بجدارة عائلة صدقة من طولكرم.
في كلّ يوم، في الصباح الباكر أو في ساعة متأخّرة من الليل، كان بعض المسلمين يتسلّلون إلى بيت عائلة صدقة ويشترون خِفْيةً قنّينة أوِ اثنتيْن من العَرَق السامريّ، صُنع سعد سلامة ، وهذا يشهد على أنّ العرَقَ مشروبٌ إجباريّ على كلّ سامريّ في عيده.
اغتاظ [صرّ أسنانه] رجالُ الدين المسلمون في طولكرم، لكنّهم لم يقدِروا على فِعل أيّ شيء، أضف إلى ذلك أنّ بعضَهم، وهذا ليس سرًّا، لم يستطيعوا تحاشي المشروبات الروحيّة، لذيذة الطعم من إنتاج سعد صدقة السامريّ. حتّى في حالة شِراء العَرَق عن طريق شخص آخرَ، عرف سعد مَن أرسل الوسيط. وفّر بيعُ هذا المشروب المحرَّم تمامًا على المسلمين المؤمنين، مصدرَ رزق جيدًّا له ولأبناء أخيه لسنوات مديدة.
تعالَ، تعالَ - دعاه سعد سلامة، تعال اُدخل وتشرَّف معنا. ما لك يا صديقي النابلسيّ الطيّب لا تأتي لزيارتنا عند مجيئك لطولكرم، وتحكي لنا أخبار آقاربنا في المدينة المقدّسة؟
لم يتسنّ لشوقي الكرمول أن يتساءل عن مغزى تقرّب هذا السامريّ منه، وكان سعد قد أحسن صُنعًا عند الترحيب فدسّ ليد شوقي قدحًا من العرق الممزوج /المكسور بالماء. لونُ المشروبِ العاجيُّ، سحر شوقي عاشقَ المشروبات الروحيّة أيّما سِحْر، لدرجة جعلته ينسى الاستفسار عن كلّ هذه الحفاوة التي استقبله بها سعد، في حين أنّ الوضع في الأيّام العاديّة، كما تذكّر شوقي، ما كان حتّى يبصُق نحوَه. شوقي كان ذكيًّا ورزينًا بما فيه الكفاية ليفهم بأنّ هذه المعاملةَ تفوق ما يستأهله رجُل ؟ٌ مثله. ما أن جرع كلَّ ما في الكأس الطويلة قليلًا، وإذا بسعد يقدّم له كأسًا ثانية. قهقه شوقي، خطفَ الكأس الثانية لئلْا يندم سعد.
كأنّه من ومْضة المخّ، توقّف عنِ الشرب، سأل بابتسامة عريضة تجاهَ أهل البيت الذين كانوا يُراقِبونه: لماذا تضحكون، فأنا لست وليدَ البارحةَ ولا قبلَ البارحة. ما أغدقتم عليّ من هذا المشروب اللذيذ ليس هباءً، لأنّ هذا السخاءَ الذي تعاملونني به ثمّة أجر بجانبه. ما القصّةُ؟
أشار سعد سلامة بيده نحوَ ركن الغرفة، ودعا الضيف للجلوس. وهناك جلس ممدوح صالح صدقة وبجانبه كأس ثالثة من العرَق تنتظر شوقي. شوقي تأمّل به بعينين متلألئتيْن.
اُسكت واسمع! قال له سعد.
رجُل البشارة
لمّا نزل شوقي الكرمول، أبو ليلة، من الطريق المؤدّي لراس العين، حارة راس العين باتّجاه حارة الياسمينة حيث سكن السامريّون، تسنّى له رؤية مريم صالح الدنفي، زوجة صالح صدقة وأُمّ الأمين وممدوح وسعيد صدقة، تضع السجّادة الصغيرة على شُرفة عليّة بيتها، وتستعدّ لساعات إضافيّة من النظر نحو طريق رفيديا. الآن، بعد عودة الأمين وسعيد من صلاة الظهر، وذهابهما لزيارة أحد الكهنة، تفرّغت لما اعتادت إليه كلَّ يوم. وقد توقّف الناس الذين يعرفون عاداتِها عن هزّ رؤوسهم نحوها، كأنّها غدت جزءً لا يتجزّأ من منظر حارة السمرة العتيقة.
مع أنّ شوقي الكرمول، الذي كان معطَّرًا أكثرَ من كونه رزينًا، وسُمعته السيّئة فاحت، فقد عرف حالةَ مريم وكالكثيرين من عرب الحيّ، انضمّ هو أيضًا لصلاتها، لا لثقتها بعودة ابنها ممدوح من الحرب.
الآن، لديه بُشرى. في الواقع استصعب التعرّف على ممدوح، ومنظره المعافى عصف بقلبه إذ أنّ الحرب قد أحسنت لبعض الناس كثيرا. قنّينة العرق التي أعطاه إيّاها سعد صدقة في طولكرم قد فَرغت، حتّى آخر قطرة. كان محتاجًا لحافز كهذا في ذهابه السريع من طولكرم لنابلس. بدأ سيره من ساعات ما قبل الظهر وبقيت ساعتان لحلول المساء. إنّه رسول الفريضة/الخير اليوم، سُبحان الخالق الذي أنعم عليه بهذه الفريضة، تبليغ البشرى لأُمّ بائسة، عُدَّت حتّى ذلك اليوم إحدى النساء الكثيرات اللواتي ثَكِلن أبناءهنّ.
الجمهور الصغير في العالَم
دخل شارع السامريّ المُعتم ظهرًا أيضًا، يتلمّس طريقَه ويده على حيطان البيوت. في الأيّام العاديّة كان يقطع هذه الطريق بلا مشكله، ولكن اليوم بعد تفريغ زجاجة كاملة من العرق وبضع كؤوس في معدته، استصعب المشي. بين مشي بخطوات بطيئة ومتردّدة، وبين تلمّس الطريق، وجد شوقي الكرمول فتحة صغيرةً تؤدّي إلى درجات عليّة سطح مريم. بعد هُنيهة كاد أن يسقط على وجهه من على كلّ الدرجات، لو لم تسمع مريم صوتَ خطوات حذائه المتعثرة. مدّت عنقها إلى ما وراء دربزين الشرفة، تنظر إليه بحبّ استطلاع متفاقم وتساءلت: ماذا يفعل هذا السكران في بيتها في يوم السبت المقدّس؟ طرأ على بالها أن تصرخ لاستدعاء ابنيها، إلّا أنّ الكرمول سبقها وقال بصوت عالٍ نحوَها:
لا تخافي يا امرأة، هذا أنا جاركم، شوقي الكرمول. لا تخافي ولا تبكي، اِمسحي الدمعة من عينيك لأنّ مكافأةَ أمَلك قد أتت.
ماذا تقول؟ ردّت مريم بصوت عالٍ - اليوم يوم السبت المقدّس عندنا. ألا تعرف أنّه يومُ راحتنا؟ لماذا جئتَ لتعكّر راحةَ جارتِك كبيرةِ السنّ؟ أشارت له بيدها بحزم أن ينصرف في طريقه.
لن أذهب إلى أن أقول شيئًا لك، ردّ شوقي الكرمول بصوت قويّ. إنّي رسولُ خير اليوم، جئتك لأُبشّرك بأنّ الله سمِع صلواتِكِ. اِصغي لي يا امرأة، أُقسم بذقن النبيّ بأنّ كلَّ ما أقوله هو الحقيقة.
تكلّم، تكلّم ولو كان هذا آخرَ كلامك على الأرض - صرخت مريم. سمِع ابنها البِكر الأمين صراخَها فهرول إليها، تقدّم بسرعة إلى شوقي الكرمول، أمسك بكتفيه محاولًا إبعادَه عن البيت. التفت شوقي إليه وتوسّل إليه أن يُفْلتَه. رائحة فم الكرمول شهدت بأنّه ثَمِل.
هل ينقصنا السكارى، إذ جئت بشدّة سُكرك لتطلق الخزعبلات على أُمّي المسنّة؟ أنَّبه الأمين بغيظ شديد. وعندما أفلت شوقي ذراعيه، مسك الأمينُ شوقي الكرمولَ بطرف مِعطفه القصير، وأخذ يجرّه على الدرجات نحو الشارع.
لو سمِعني أُناسٌ طيّبون، جازاكمُ الله خيرًا - صرخ شوقي الكرمول بحَنْجرة ناشفة، وهو مجرورٌ خلفَ الأمين الذي يجرّه تُجاهَ الفتحة. لديّ سلامات لكم من أقاربكم، سلامات من أقاربكم في طولكرم، سعد صدقة. إنّي حامل بُشرى أنا اليوم. في صباح هذا اليوم، رأيت في بيت سعيد صدقة شقيقَك، يا أمين، وابنك عزيزَك ممدوح، أيّتها الأّم ّالغالية، استجاب الله لصلاتك. ابنك وصل من تركيا. إنّه حيّ، معافى، قويّ، نعم، صدّقوني، رأيت ممدوح صدقة!
واصل الأمين جرَّ الكرمول إلى الفتحة، بين سامع وغير سامع كلام الكرمول، في وسط أنّات الثَمَل. وهنت يدُه عند سَماع اسم شقيقه ممدوح من فم السكران. صوت صُراخ شديد انطلق من حَنْجرة أُمّه مريم، جعله يفلت تمامًا طرف مِعطف الكرمول، وهرع لإغاثة أُمّه التي كانت على وشك فُقدان الوعي.
اِشْفق عليّ وارحمني، اِشْفق وارحم امرأةً مُسنّة - أجهشت مريم بالبكاء، تسيل الدموعُ من عينيها كجدول - لماذا أتيتَ لتسخرَ منّا؟ من هو بِكْر الشيطان الذي بعثك لتقتلَني برمشة عين، تأتيني وتتحدّث كالمجنون؟ إنّي أعلم أنّني كنت مسخرةً في نظر كلّ جيراني، لأنّي ما فقدتُ ولو للحظة الأملَ في أن أرى ذاتَ يوم ابني حبيبي، ابني قُرّة عيني. ولكن لماذا تعاملني بقسوة، وما فعلنا لكم، لعائلة الكرمول حتّى تأتي وتضحك حزني وشقائي. [انظر مراثي إرْمِيا 1: 7، هذا الاستعمال שׂחקו על משבתה، غير موجود في التوراة] لا، لا تقُلْ شيئا. إيّاك أن تجرؤ وتنطِق شفتاك الدَّنِستان باسم ابني. تعال هنا يا سعيد، تعال هنا يا أمين، أزيلا عنّي خِزْيَ وجود هذا السكرانَ! أَخْرِجاه من هنا واضمنوا ألّا أراه بعد أبدا.
لا، اِسْمعوني، لأنّي أقول الحقيقة. صرخ شوقي الكرمول إلى الآمين وسعيد اللذيْن أسرعا لمسكه، وإخراجه من هناك أمامَ كلّ أبناء الطائفة من الصغير إلى الكبير الذين تجمّعوا هناك، وشهدوا على ذلك المشهد الغريب عندهم جدّا. إنّي أُقسم بذقن النبيّ، ولتعمى عيناي إنْ لم أرَ ممدوحًا عزيزَكم، معافى سليمًا في بيت سعد صدقة في طولكرم. جئتُ من هناك. سعد صدقة هو الذي أرسلني إليكم لأزفّ البشرى لكم، بأنّ ممدوحًا حيّ يُرزق وبأن تذهبوا لإحضاره إلى نابلس بالتكريم.
الكاهن توفيق يُهدّىء
أَصْغُوا إليّ كلُّكم! - سُمِع صوت مفعمٌ بالسُّلطة من عليّة السطح المجاورة. كان هذا الصوت الرقيق بيّنًا بنغماته
التي كانت مزيجَا من أبواق الابتهاج وأجراس الصلاة. اِلتفت الجميع نحوَ ذي الوقار وذي الذقن الأشقر الواسع. وسيمًا كان كملاك الله، إنّه توفيق الكاهن، الابن البِكر بين أربعة أبناء الشاعر الكبير الكاهن خضر/فنحاس إسحق.
توفيق الكاهن المعروف بكُنيته ”أبو واصف“، الذي كان قليلَ الكلام، ولكن عندما كان يفتح فاه للكلام، نصت إليه الجميع؛ حتّى الكاهن الأكبر إسحق عمران كان أُذْنًا صاغية له.
نداؤه كان بمثابة أمر. الأمين وسعيد توقّفا عن المشي. نظر كلّ الحضور إلى الكاهن توفيق، منتظرين ما سيقوله. وقد شعر الكرمول بتغيّر سلوك المتجمّعين حوله. لولا أبو واصف، الكاهن المقدّس هذا، لكانوا مزّقوني إربًا كسمكة، قال لنفسه بصمت، وربّما سيمسكونه من جديد.
أَفْلتوه - أمر الكاهن توفيق، وللتوّ أشار إبراهيم أخوه للأمين وسعيد لفعل ذلك. في الواقع، جارنا هذا ليس في عِداد الأذكياء ولا يُعدّ عادة رزينًا، ومع هذا دَعُونا نسمع ما في فيه، ليفتحه وليُنر كلامُه - التفت الكاهن توفيق نحوَ شوقي الكرمول الذي تقزّم إزاءَ نظرة الكاهن الثاقبة.
أقسمتُ بحياة أبي أنّي لن أقول إلّا الحقيقة، سيّدي الكاهن. همس شوقي كلماتِه - إنّي أتٍ من طولكرم، بمهمّة ولو عرفت أنّكم ستستقبلونني هكذا لما أتيتُ. هناك رأيت ممدوح صدقة الذي وصل من تركيا. أُقسم بالله، معافى هو وقويّ كالحصان، صافٍ وأحمرُ هو كملاك الله.
الوفد يُغادر إلى طولكرم
تتبّعتهم أُمّ ممدوح بعينين دامعتين، غير مصدّقة ما يجري قدّامَها. رأتِ الكاهنَ توفيق بن خضر/فنحاس يوزّع التعليماتِ همسًا على الرجال المتجمّعين حوله. تفرّقت المجموعة. بدأ الرجال بالتراكض من هنا وهناك. بدا الحيّ كخليط يغلي، نداءات وصرخات في كلّ مكان.
من كلّ هذا الضجيج، خرجت أخيرًا مجموعة من خمسة رجال، على رأسها الكاهن توفيق. لاحظتِ المجموعة أنّ الأمين، بِكر مريم، في المجموعة التي تشُقّ طريقَها إلى ساحة المدينة للحصول على ديليجانس (مركبة بطيئة ولكنّها ناجعة)، لتُقلّهم في ذاك المساء إلى طولكرم.
أخذ الأمين بِكرُها على عاتقه التكفّلَ بكلّ التكاليف. عقّب أبو واصف، الكاهن توفيق، بأنّ أمرًا ما يجري للأمين، شيء نادر جدًّا. أصبح على حين غِرّة كريمًا معروفا. اُنظروا ما تفعلُ محبّة الإخوة - قال أبو واصف، لم يُضِفْ شيئا. من المفروغ منّه، أن لا أحدَ فكّر في الردّ عليه. ها هنا شرف عظيم لا نظيرَ له، أنّ كاهنًا مثل أبي واصف لن يعرف السكينة والراحة إلى أن يُعيد ابنًا مفقودا لذويه.
مكثتِ النساء في الخلف وحاولن تهدئة الأُمّ مريم المضطربة الهائجة. مرّتِ الآن بتجربة غريبة من فقدان الثقة. هي، التي كانت الوحيدة التي وثِقت/آمنت/المؤمنة بعودة ابنها إليها، انقلبت الآن لتكون الوحيدةَ التي لم تصدّق إمكانيّة حصول ذلك. كانت مريم شبيهةً بامرأة تصوم صومَ يوم الغفران، تشعر بجوع رهيب، ولكن عند انتهاء اليوم وترى مائدة الطعام المتنوّع جاهزةً أمامَها يتلاشى جوعها كأنّه ما كان، حتّى ولو لم تضع لقمة في فمها. هكذا كانت مريم.
عادت مريم وقالت، وهي جدّ منفعلة، للنساء المتحلّقات حولَها: لا، لا، هذا مستحيل، لا يُساورني أيُّ شكّ بأنّ اللهَ يجرّبني فأرسل شوقي الكرمول المجنون والسكران، ليسخر من نفس أمَته.
واصلتِ النسوة في تهدئتها ولكن عبثًا. لم تستطع مريمُ بعدُ، أن تهضم الحدثَ الأخير الذي وقع عليها فجأةً، بدون أيّة مقدّمة أو تمهيد، بعد أربع سنوات من الانتظار العبثيّ. لم تتركها النساء في تلك الليلة خشية من عدم تحمّل عبء التجربة.
نظر وجهك ما رجوت [ تكوين 48: 11، اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإسرائيليّة للعلوم والآداب، 1989، ص. 244–245].
زحفت ساعات صباح يوم الأحد ببطء محطّم للأعصاب. لم تتوقّف مريمُ عن وضع علامة استفهام كبيرة، أمامَ عينيها حول مِصداقيّة الكرمول. كانت تنظر من مجلسها الدائم في شرفة عليّة بيتها، نحو طريق رفيديا.
فجأةً، كاد قلبُها يتوقّف عن النبض. رأت عن بُعد عِمامة الكاهن توفيق الحمراءَ وهو ينزِل درجاتِ عين العسل على رأس زُمرة كبيرة من الناس=، تهتف بالنشيد: حينئٍذ سبّح موسى [خروج 15: 1] المُلْقى للعرسان. في وسط المجموعة حُمِل على الأكتاف، شابّ معتمر قبّعة واسعة الحواف، ولابس بنطالًا قصيرا. قال/شهد قلبها/دليلها أنّ أعجوبَتها الشخصيّة وقعت.
ممدوح ابني، ممدوح ابني، ابني حبيبي عاد إليّ، رؤية وجهك ما ظننتُ - قالت بصوت عالٍ. أسرعتِ النساءُ فسكبن على وجهها ماءً باردا لإنْعاشِها.
آشِر، ممدوح، ابني عزيزي - مريم فقدت وعيَها ثانية.
منقّح القصّة الأمين صدقة يُغلق/يُتمّم الدائرة: في السنتين 1966–1967 منع الشباب السامريّون وأنا منهم منَ العبور للأردن لقضاء عيد الفسح/القُربان في مَعيّة إخوتهم. رفض الأُردنيّون ذلك. بعد نهاية حرب العام 1967 [في الأصل: حرب الأيّام الستّة] ببضعة أيّام وصلت بيتَ أُسرتي في نابلس. طرقتُ الباب، أتى شخص وفتح. من ضمن المجموعة المرتعبة التي كانت متجمّعةً في رُكْن الغرفة، تقدّم إليّ عمّي ممدوح/آشِر ابنُ الثاني والثمانين عامًا [بناء على هذه المعلومة تكون سنة ولادة ممدوح 1885، في حين أن معلومة سابقة في القصّة ذكرت أنّه كان ابن اثنين وعشرين عامًا عند تجنيده للحرب العام 1914 وعليه فسنة ولادته هي 1892، لا بدّ من فحص ذلك]، ضمّ كتفيّ وبكى:
نظر وجهك ما ظننتُ.