دور اللغة في الثقافة
ا. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
علينا أن نعي أن الثقافة في جوهرها ينبغي أن تكون طريقة حياة وممارسة لا تنحصر في القضايا المعنوية والذهنية فحسب. مفهوم الحضارة أوسع من مفهوم الثقافة فهو يشمل العلوم والصناعات في حين أن نطاق الثقافة يتمحور في اللغات والآداب، وغدت الثقافة اليوم محورَ الحوار بين كافة الشعوب والحضارات. دور اللغة، أية لغة كانت، في هذا المجال هو بمثابة الحاضن للثقافة. من ميزات الثقافة الخصوصية أنها مرآة الأمة، أي أنها قومية أما الحضارة فهي بطبيعتها أممية وهي أسلوب حياة أيضا. التقوقع والانعزال معناه التبعية والتشرذم والاندثار، والعقل العربي اليوم تبعي وعقل كهذا بعيد بطبيعته عن الخلق والإبداع. إن العبرة في ثورة المعلومات التي تكتسح الكرة الأرضية حالياً هي القدرة على الغربلة بل والتنخيل، أي طرح الغث الواهي وانتقاء السمين الرزين من الجديد والمفيد
يبدو لي أنه لا بدّ من إعادة النظر بشأن موقفنا من لغة الضاد ولهجاتها، اللغة القومية لأربعمائة مليون عربي تقريبا، والتعامل معها أساسا كوسيلة للثقافة والفكر لا كغابة في حدّ ذاتها. للغة دور أساسي جدا في ترسيخ الوعي القومي وتنمية التفكير النقدي الخلاق. إن الأسلوب الرنّان الطنّان الذي لا طائلَ تحته لا مكان له في الحياة الفكرية المعاصرة والجادّة. إن الزيادة في اللفظ يجب أن تتمخّض عن زيادة في المعنى. حبّذا لو يتذكّر مدرّسو اللغة العربية على وجه الخصوص ما قاله اللغوي العربي الفذّ، أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفى عام 1002 ”عرف بذلك أن الألفاظ خَدَمٌ للمعاني، والمخدوم - لا شك- أشرفُ من الخادم”. وفي مكان آخرَ عبّر عن نفس المعنى بقوله ”فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يُقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها. فالمعنى إذا هو المكرّم المخدوم، واللفظ هو المبتذل الخادم.
علينا أن نقرّ بأن هذه اللغة العربية الفصحى الحديثة التي تجمع تحتَ كنفها كل بني يعرب من الخليج إلى المحيط ليست لغة أم أي واحد منّا على الإطلاق. هناك لهجات عربية لا حصرَ لها في العالم العربي وهي بمثابة لغة الأم بالنسبة للناطقين بها. يتحتّم على العربي، كما هو معروف، أن يفهم أولاً قبل أن يقرأ بشكل سليم صرفيا ونحويا ثانيا، في حين أن معظم أمم هذه المعمورة تقرأ أولا لتفهم ثانيا إذ أن الصوامت والصوائت في لغاتها تكوّن الكلم في لغاتها. وللأمانة العلمية ينبغي أن نشير إلى أن الفجوة بين اللغة العربية الأدبية واللهجات تضيق باستمرار في أعقاب الانخفاض التدريجي في نسبة الأميين نتيجة للتقدم العلمي والتقني الباهر الذي يجتاح الجميع ويخترق صالوناتنا دون أي استئذان. لكن نحن معشر العرب، والحق يُقال، لسنا من المغرمين بالقراءة إذ أننا نقرأ بالأذنين، وكم أتمنّى أن أصبح مخطئا في يوم ما في قادم الأيام.
لا نأتي بأي شيء جديد إذا ما قلنا بأن شريحة لا يُستهان بها من الأكاديميين العرب تطلّق الكتاب والمطالعة إثر التخرّج والحصول على شهادة جامعية. نعم إنهم يطلّقون الكلمة المكتوبة ليتزوجوا ويقيموا أسْرة وكأن الحياة الزوجية وعادة المطالعة الواعية والمنتظمة ضدان لا يجتمعان كعدم اجتماع السكونين في العربية، لغويا إنهما يجتمعان في حالتين على الأقلّ. ديدنهم إننا أصَبنا من العلم والمعرفة ما فيه الكفاية ”شو العلم للشبع”! يلاحظ أن ذلك المخزون المعرفي والثقافي الذي حصل عليه هذا الأكاديمي أو ذاك لا يُستغلّ في الأغلب لتهذيب النفس وترقيتها في سلّم الكمال بل يظلّ مادّة نظرية لا تمتّ إلى الواقع بأوهى صلة. من جهة أخرى قد نجد بعض الناس الذين لم ينخرطوا في أية مؤسسة تعليمية إلا أنهم قد علّموا أنفسهم وثقّفوها خير تثقيف في بعض المجالات المعرفية والأخلاقية.
المعلم القدير والمخلص في تصوّرنا هو الذي يسعى جادّا دون كلل أو ملل في زرع بذور التفكير العلمي، والاعتماد على النفس والحوار الديمقراطي المثمر في عقول فلذات أكباده وأفئدتهم، وينمي فيهم روحَ الاستقلال والمبادرة والعزّة والشهامة، لا التلقين والطاعة العمياء والذلّ والرياء والهوان. بداية الثورة والتجديد من اللغة. اللغة أية لغة لا تعني الأصوات والصرف والنحو والمعجم أو علم الدلالة فحسب بل إنها في الأصل مرآة الشعب وهويته القومية بتاريخه وبثقافته وبتقاليده. هناك جانب آخرُ في غاية الأهمية وهو أن من لا يُجيد لغتَه بالمهارات الثلاث الرئيسية، التحدث والقراءة والكتابة لن يستطيع اكتساب لغات أخرى بشكل دقيق وبالسهولة المبتغاة. اللغة وعاء الفكر والوجدان ويجب التعامل معها بصدق وعمق وشمولية.
هناك من قال ”إن المثقفين الذين لا يُتقنون معرفةَ لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب بل في رجولتهم نقص كبير ومُهين أيضا”. لا أحبّذُ استخدام مثل هذه الأحكام القاسية إذ أن ابن هذا القائل كان ضمن هذا التعريف، بل أقول إن إجادة اللغة العربية لا تتجلّى في حفظ كل شاردة وواردة من صرفها ونحوها وقاموسها كما وردت في أمّهات الكتب ولدى النحويين القدامى، الشعر الجاهلي، القرآن الكريم، الأحاديث النبوية، الأغاني، العقد الفريد، سيبويه، الفراء، الزمخشري، ابن جنّي، الزجاج، المازني، ابن فارس، ابن منظور الخ. الخ. اتقان المثقف العربي للغته معناه في نظري التمكن من المهارات اللغوية الثلاث، القراءة والفهم والتعبير الشفوي والكتابة السليمة. بيت القصيد أن يطبّق المثقف الجانب النظري لقواعد اللغة الأساسية ولا ضير في أن ينساها بعد أن تغدو اللغة لديه ملكةً لسانية راسخة. معرفة شبه تامّة لقواعد العربية وفق مدرستيها الرئيسيتين، البصرة والكوفة، هي مهمة ملقاة على كاهل الباحثين الأكاديميين المختصّين بغية التحليل العلمي وعلم اللسانيات المقارن.
إن معرفة قواعد اللغة لا يؤدي بالضرورة إلى اتقانها حديثا وكتابة وخير دليل على ذلك ما نعرفه عن معظم المستشرقين في عالمنا الحاضر الذين لا يتكلمون العربية ولا يكتبونها بل يبحثون فيها ويكتبون عنها بلغاتهم، يعرفون كل شاردة وواردة تقريبا عنها. معرفة الشخص الكاملة لمبادىء السباحة، على سبيل المثال، لا تجعل منه، كما قال ابن خلدون في مقدمته، سبّاحاً وقل الأمر ذاته بالنسبة للخياط. يبدو لنا أن التطبيق أعسرُ بكثير من النظرية في مجال اللغة على الأقل. رسالة تدريس اللغة العربية وإعلاء شأنها تقع أصلا على عاتق معلّم هذه المادّة في المدرسة ابتداء من المراحل الأولى إلا أن الآخرين مدعوون للإسهام في ذلك. وتحتاج الثقافة العربية المعاصرة إلى أربعة أركان أساسية لتزويدها بالزخم المطلوب: التراث الصالح؛ الترجمة من لغات العلم والمعرفة إلى العربية ومن العربية إليها؛ إعداد قاموس جامع مانع بقدر الإمكان وفق معايير المعجمية العلمية الحديثة الإلكترونية؛ دائرة معارف حديثة مبنية على نفس المعايير المذكورة.
في أوروبا أربعون لغة ذات ثلاثين أصلا وعرقا وهي منضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي وللعرب في أقطارهم زهاء العشرين، لغة ثقافة واحدة ذات تاريخ عريق وثري وفي مقدورها إعادة مجدها التليد العباسي والأندلسي إذا توفرت الشروط الضرورية لدى الإنسان العربي المعاصر واتكل أولا وقبل كل شيء على قدراته الذاتية مستفيدا من التقدم العلمي المعاصر.
احترام اللغة القومية والحرص على معرفتها السليمة واجب قومي وحضاري على أبنائها، عندها لن تحتل جامعة عربية واحدة فقط، جامعة القاهرة ذات الربع مليون طالب وطالبة المكانة 403 ضمن الخمسمائة جامعة في العالم بل ستتبوأ مركزا أفضل بكثير في المستقبل القريب. الاهتمام بلغة الأم لا يعني أبدا إهمال لغات عالمية ضرورية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، المكانة الأولى يجب أن تكون للعربية وفي الديار المقدسة أيضا حيث يتصاعد ويتفاقم التأثير السلبي للعبرنة والتعبرن وكثيرا ما تسمع متعلمين جامعيين يحشرون كما هائلا من الألفاظ العبرية في حديهم العربي وأحيانا كثيرة يستعملون كلمات عربية والسبك والمنبع متحدران من العبرية، مثلا “كل الاحترام، بالنجاح، اللقب الأول والثاني والثالث، هذا مقبول عليّ إلخ.”
لكل قوم لسان يعرفون به إن لم يصونوه لم يُعرف لهم نسبُ
مشوار التربية والتعليم طويل وتراكمي وذو هدف نبيل وخير الاستثمار طويل الأمد يكون في الإنسان، الصبي والصبية منذ روضة الأطفال فصاعداً.