حول علم اللغة النفسي
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
هذا العلم، علم اللغة النفسي، أو علم النفس اللساني/اللغوي (psycholinguistics)، يدرس علاقة اللغة بالعقل. إنه يتطرق إلى اللغة البشرية الطبيعية بوصفها ظاهرة نفسية ذات صلات بفضاءات أخرى في النفس البشرية. من تعريفات هذا العلم الشائعة القول: دراسة اللغة الإنسانية وفهمها وإنتاجها واكتسابها. يُعتبر هذا العلم من أحدث الفروع اللغوية المعاصرة. تعود بدايته إلى منتصف القرن العشرين في أمريكا وسرعان ما عمّ وانتشر في بلدان العالم. هنالك لغويون كثيرون يرون أن لظهور النظرية التوليدية التحويلية (generative, transformational) في اللغة لدى نوعم تشومسكي الفضل في نشأة علم اللغة النفسي الذي يبحث في العلاقة ما بين اللغة والعقل البشري أو النفس البشرية. تلك النظرية التي بحثت مبنيي الجملة، العميق والسطحي، عقّدت الصلة بين التحليل اللغوي ونظرية التعلم والمعلومات. يرى تشومسكي مثلا أن العلاقة الشرطية بين المثير والاستجابة غير صالحة لتفسير قدرة الانسان على التكلم. في اعتقاده لدى الطفل ملكة أو قدرة أو قابلية فطرية تعينه على تعلم اللغة (“قرع الشفتين” عند ابن خلدون) من خلال السماع وتكوين قواعد اللغة والقياس عليها لاحقا. يُطلق عادة على هذه الفطرة أو ملكة اللغة بالقوة اسم نظرية فطرية للقواعد اللغوية العالمية في مخ الطفل، وقد سمّاها اللغوي تشومسكي “أداة/جهاز اكتساب اللغة” (Language-Acquisition Device = LAD) المتشكّل في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل. يُولد الطفل مُبرْمجا كالحاسوب بهذه الآلية الرئيسية المشتركة لدى بني البشر عامّة. يُذكر أن هذه الآلية تولد في السنوات الأولى لحباة الطفل ما يمكن تسميته بـ”القواعد الداخلية”. في السنّ السادسة تقريبا يكون الطفل قد سيطر على مبادىء لغته وبهذا الإنجاز تتحقق مرحلة هامّة جدا من التطور النفسي لديه. توجد بعض أوجه شبه بين الوضع الذي يتعلّم فيه الطفلُ الكلامَ وبين اللغوي الباحث في اللغة. ما زلنا بعيدين عن طرح نظرية متكاملة تشرح خطوة خطوة عملية اكتشاف الطفل لمبنى لغته بالرغم من التقدم الذي أحرز في هذا المضمار. كل محاولات الكبار في تصحيح طريقة تلفظ الصغار ببعض الكلمات تذهب أدراج الرياح لأن الأوائل بواد والأواخر في آخر. الأطفال يبنون لغتهم بجد ونشاط.
لا مندوحة من التمييز بين مفهومي القدرة اللغوية والأداء (competence, performance) وفي القدرة اللغوية إمكانية انتاج عدد غير متناه من الجمل، أي أن اللغة عبارة عن منظومة من الجمل غير المتناهية يصوغها الإنسان من مادّة لغته المحدودة. خذ بعين الاعتبار في هذا السياق حقيقة وجود عدد محدد من الحروف الهجائية ومنها من الممكن تأليف ما لا نهاية من الألفاظ والعبارات والجمل. يذكر أن الجمل الغامضة أو ذات أكثر من معنى تكون على جانب كبير من الأهمية لغويا ونفسيا. تمثّل العلاقة بين الأفكار والجمل المشكلة الرئيسية لعلم اللغة النفسي، إنها معضلة المعنى، علم الدلالة (semantics). يعتمد تفسير جمل معينة على مبناها النحوي من جهة ومعنى كل عنصر في الجمل من الجهة الثانية. لا بد من التنويه أن معاجم اللغات البشرية كلها ليست كاملة ولا تدلّ على مبنى اللغة وفلسفتها.
لغة الطفل وفق التعريف اللغوي الحديث هي تلك التي يستعملها الطفل مع الآخرين صغارا كانوا أم كبارا وكذلك لغة الآخرين معه وثالثا لغة الطفل مع نفسه. من المفروغ منه أن هذه اللغة ذات سمات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية مغايرة مقارنة بلغة البالغين. الجدير بالذكر أن فترة ما قبل الصف الأول هي الفترة الذهبية بالنسبة للنمو اللغوي لدى الإنسان؛ تنمو اللغة جنبا إلى جنب مع النمو العقلي وهي عامل أساسي في تطوره. إن تطوّر الطفل يتوقّف على تطوّر لغته إذ أن للغة دورا مركزيا في عملية التربية. بوسعنا القول إن اللغة لا تعبّر عن التواصل والأفكار فقط بل عن العواطف والرغبات والأهداف وأمور كثيرة أخرى أكثر عمقا أيضا. في السن الثامنة من العمر يصل الطفل عادة إلى مستوى الراشدين من حيث النطقُ وفي السنّ العاشرة من العمر يصبح مستوى النحو لدى الفتى ناضجا كالكبار. في مجال الألفاظ الدلالية، المعجم، تستمرّ عملية التعلّم والنمو والتطوير حتى نهاية العمر. أظهرت بعض الاختبارات أن تعلّم عدّة لغات في السنوات العشر الأولى من عمر الطفل يعرقل النمو الفكري. يفضّل اكتساب لغة الأم والتمكن منها أوّلا وبعد ذلك يمكن الشروع بتعلم لغات أخرى.
هنالك آراء ونظريات عديدة بصدد وجود علاقة ما أو عدمها بين اللغة والفكر، منها أنهما منفصلان وللفكر الأسبقية أو أنهما مرتبطان واللغة تبلورالفكر وترسم حدوده. هنالك من يذهب إلى أن اللغة بمثابة رداء أو وعاء أو أداة لفكر الإنسان وآخرون يعتقدون عكس ذلك، اللغة ليست رداء بل جسم التفكير ولا يمكن فصلهما كما لا يمكن فصل النفس عن الجسم دون القضاء عليهما معا. على كل حال، الرأي الشائع اليوم يذهب إلى وجود تأثير متبادل بين اللغة والتفكير، وهل هناك تفكير أصلا بدون لغة؟ وكما قال كمال يوسف الحاج “لا وجود لفكر غير مكلمن” أو “نحن نؤمن بأن التفكير والتعبير شيء واحد” (كمال يوسف الحاج، فلسفة اللغة. الطبعة الأولى، دار النشر للجامعيين، د.ت. في الأصل أطروحة دكتوراة بالفرنسية في السربون في ١٩ ايار ١٩٤٩، ص. ١٠؛ ص. ٦٢ ،١٥٠). من نافلة القول أنه كلما اتّسع علم المرء اتّسعت لغته. ليست اللغة ضرورية لصياغة الفكر فحسب بل إنها جزء من عملية التفكير نفسه. لا يتم التفكير في فراغ وكل إنسان منغمس في خضم الكتابة يعلم مدى المعاناة في البحث عن اللفظة الملائمة للتعبير الدقيق عن فكرة معيّنة أو إحساس ما. نظرة ثاقبة إلى ماهية اللغة تفضي إلى أن اللغة ليست واسطة أو وسيلة لتحقيق أهداف معينة بل إنها غاية بحد ذاتها أيضا. تتصدر مسألة علاقة لغة الفرد بتفكيره مواضيع علم اللغة النفسي وهناك كم هائل من النظريات والآراء والفرضيات وفق مدارس فكرية ولغوية مختلفة.
في هذا السياق أيضا علينا أن ننوّه بوجود آراء تقول بأن اللغة تشكل عقبة أمام التفكير الحرّ أو على الأقل تحدّ منه وتكبّله. قال چوته (Johann Wolfgang von Goethe, 1710-1782) إن اللغة تخلق “سحابة من الدخان” وتُخفي الواقع الحقيقي وتمسخه، في حين رأى آخر أن اللغة تسحر مستخدميها لأنها تلزمهم بنمط تفكيري وفق قوالب جاهزة. يقول هيردر (Johann Gottfried von Herder, 1744-1803) وهومبولدت (Wilhelm von Humboldt, 1767-1835) مثلا إن اللغة هي بمثابة قالب للفكر وتوجد خصائص مشتركة بين اللغة والشعب الناطق بها. بعبارة أخرى كل شعب يتحدث كما يفكّر ويفكّر كما يتحدّث. مما قاله هومبولدت هو أن الفرق بين اللغات يتمثل بالأساس في كيفية رؤية الناطقين بلغات مختلفة للعالم. وقد دلّت الأبحاث الحديثة إلى أن المتكلمين بلغات مختلفة يفكّرون بطرق مختلفة. كل إنسان ينظر إلى الطبيعة ويحللها وفق ما ترسمه له لغته الطبيعية وهذه النظرية لا تنفي وجود عناصر عالمية مشتركة بين اللغات (universalisms). بموجب هذا الاختلاف يتجلّى الوجود لدى الإنسان ذاته وفق ما يتكلّم من لغاتٍ مختلفة. صفوة القول أن عملية التعبير عن الأفكار بكلمات ما زالت ملامحها الدقيقة غير واضحة. على الإنسان الذي ينوي بلوغ تفكير منطقي واضح ومستقل أن يتحرّر من قيود اللغة.
يرمي علم اللغة النفسي أيضا إلى دراسة العلاقة القائمة بين اللغة والفكر وكيفية اكتساب اللغة، كيفية فهم الكلمات والجمل وسرعة ذلك وصعوبات الفهم والمعجم الذهني. كما تندرج تحت مواضيع علم اللغة النفسي الازدواج اللغوي (diglossia) وثنائية اللغة (bilingualism) وعلاقتهما بالذكاء والشخصية، ونظرية الأسلوب والتطرّق لدراسة أمراض اللغة وعيوب الكلام (la parole) المختلفة المسبّبة للحن صوتيا وصرفيا ونحويا ودلاليا ودراسة اللغة الانفعالية وكيفية تعلّم اللغات الأجنبية. الازدواج اللغوي ليس وقفا على لغة دون غيرها ولكن طبيعة هذه الظاهرة، أي مدى الفجوة بين نمطي اللغة، هي جوهر الحالة. لا أحد يتكلّم كما يكتب ويكتب كما يتكلم. كان أنيس فريحة أحد الذين نادوا بالتخلص من الازدواجية واستخدام لغة واحدة للحديث والكتابة (مجلة الأبحاث، ج. ١، سنة ٩، بيروت، آذار ١٩٥٦، ص. ٤٢). يذكر أن الثنائية اللغوية الكاملة أي سيطرة شخص ما على لغتين بنفس القدر هي من الحالات النادرة حقا. من المفروغ منه دلاليا أن للألفاظ معنى منطقيا عاما مشتركا بين الناطقين باللغة ومعنى آخر نفسي خاص. يُعنى هذا العلم أيضا بالعمليات الدماغية عند الكتابة والقراءة والفهم وبتخزين الوحدات الدلالية والقواعد النحوية في العقل وعمليات الذاكرة. القواعد باختصار شديد هي بمثابة الرابطة الضرورية ما بين المعنى والصوت أو الرمز. لا يجوز التكلم عن نظرية ثابتة للقواعد اللغوية بل عن حالة من التدفق والجريان (flux) والويل كل الويل لأصحاب لغات لا تواكب التطور.
أظهرت دراسات حديثة أهمية الفصّ الأيسر في الدماغ في انتاج اللغة وهي منطقة البروكا وفهم اللغة لدى منطقة فرنيك وأي عطب فيهما يؤدي إلى فقدان نوع من أنواع الكلمة (left and right hemisphere). السلوك اللفظي لدى هذا الشخص أو ذاك هو نتاج عُصارة نظرة كل واحد منهما للطبيعة والوجود. بعبارة أخرى يعبّر الإنسان عما يرى أنه الحقيقة والمعاني التي يعبّر عنها ليست الواقع ذاته، فمثلا حين نقول “الدنيا نار” فهذا القول لا يعكس درجة الحرارة في تلك اللحظة، أي لا وجود لحقيقة علمية دقيقة هنا بل تعبير ذاتي عما شعر به القائل. من أهمّ الثيمات التي يبحثها هذا العلم هي العلاقة بين الجهازين العصبي والنطقي. من الملاحظ أن الإنسان لا يُدلي بمعلومة ما بنفس الطريقة والمنوال مرتين. يمكن إطلاق الاسم “النفسولغويون” على الباحثين في علم اللغة النفسي اليوم.
تداخل العلوم الحديثة ببعضها البعض أضحى سمة معروفة لدى المنشغلين في الدرس المعرفي المعاصر. لعل ذلك ناتج عن الرأي الشائع القائل بأن اللسانيات قد احتلت مركز الصدارة في مجال الأبحاث الإنسانية. من المعروف أن علم اللغة أو اللسانيات هو أول مجال معرفي اتّخذ اللغة موضوعا للدراسة مستعملا اللغة أداة له في البحث والتحليل وهذا ليس بالأمر الهين إذ أن أهم ناحية في اللغة هي أنها خلاقة. أضف إلى ذلك اللغة هي ظاهرة نفسية واجتماعية ومن هنا تنبع أيضا الصعوبة في دراستها. لعل علم النفس بمجالاته المتعددة أكثر العلوم ترابطا بمناهج علم اللغة الحديث. اللغة، أية لغة، تستحوذ على اهتمام عالم النفس لأنها مظهر هام من مظاهر السلوك الإنساني وقد أولى علماء النفس اهتماما واضحا منذ أمد طويل بالظواهر اللغوية إذ أنها مصدر موثوق به لاستقاء المعلومات الضرورية. مهمة اللغوي المعاصر هي فهم ووصف الظواهر اللغوية القائمة.
نوال، محمد عطية، علم النفس اللغوي. المكتبة الأكاديمية، ٢٠٠٠.
Aitchison, Jean, Words in the Mind: An Introduction to the Mental Lexicon. Oxford: Blackwell 1987.
Chomsky, Noam. New Horizons in the Study of Language and Mind. Cambridge: Cambridge University Press 2000.
Fodor, J. A., The Psychology Of Language (An Introduction to Psycholinguistics and Generative Grammar), McGraw-Hill, United State Of America, 1974.
Levelt, W. J. M., A History of Psycholinguistics: the pre-Chomskyan era. Part 1. Oxford: Oxford University Press, 2013.
Steinberg, Danny D., An Introduction to Psycholinguistics. London: Longman 1993.
Scovel, Thomas, Psycholinguistics. Oxford University Press 1998.
[spacer.gif]